وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي *الأمن المائي السوداني: تحذيرات الخبراء.*
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
*الأمن المائي السوداني: تحذيرات الخبراء.*
في ظل التحولات التي تجري في هيكلة مؤسسات الدولة السودانية، وخصوصًا ما يتصل بوزارتي الري والزراعة، يبرز ملف الأمن المائي بوصفه قضية استراتيجية بالغة الحساسية والأهمية. فقد شهدت الأيام الأخيرة نقاشًا واسعاً ، فنيًا وسياسيًا، بشأن قرار دمج وزارة الري والموارد المائية في وزارة الزراعة، وسط تحذيرات متزايدة من خبراء ومختصين بشأن ما قد يترتب على هذا القرار من آثار سلبية تمسّ الأمن المائي الوطني، الذي يمثل أحد أعمدة الأمن القومي السوداني.
شاركنا بالأمس في ندوة نظّمتها رابطة خريجي معهد دلفت للمياه، وضمّت أكثر من 118 متخصصًا وباحثًا في مجالي المياه والزراعة، ناقشوا إيجابيات وسلبيات هذا الدمج. وتناولت الندوة قضايا جوهرية، من بينها التعقيدات الفنية والإدارية المتراكمة في إدارة الموارد المائية بالسودان، حيث تشرف الوزارة حاليًا على ستة خزانات مائية كبرى، ومئات المنشآت الهيدروليكية التي تغذي مشاريع ري استراتيجية مثل الجزيرة، والرهد، وحلفا الجديدة، إلى جانب مشروعات أُنجزت دراساتها ككنانة، والرهد .
هذه الأدوار الفنية تجعل من وزارة الري والموارد المائية مؤسسة محورية في إدارة مورد استراتيجي، لا يقتصر دوره على توزيع المياه، بل يتداخل أيضًا مع ملفات سيادية إقليمية معقدة مثل سد النهضة ومفوضية حوض النيل.
في المقابل، تضطلع وزارة الزراعة بمسؤوليات عظيمة تتعلق بالأمن الغذائي الوطني والإقليمي، وهي ركيزة مهمة من ركائز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. إلا أن دمج الوزارتين، رغم ما قد يبدو عليه من وجاهة إدارية، ينطوي على مخاطر كبيرة، أبرزها تهميش ملف الموارد المائية، الذي يتطلب إدارة حاكمة ذات استقلالية فنية وسياسية، لضمان استمرارية الاستراتيجيات الوطنية المرتبطة به.
وقد أكد عدد من المتحدثين في الندوة – من وزراء سابقين وخبراء أكاديميين – أن المياه تمثل موردًا سياديًا يرتبط بالأمن القومي، مشيرين إلى أن تجارب الدمج السابقة لم تُحقق النجاح المطلوب، بسبب غياب الدراسات المتأنية والإعداد المؤسسي الكافي. كما شددوا على أن استقرار البنية المؤسسية لإدارة المياه أمر لا غنى عنه للحفاظ على الكوادر الفنية والخبرات المتخصصة.
كما حذرت الندوة من أن إلغاء وزارة مستقلة للموارد المائية قد يؤدي إلى إضعاف المكانة الفنية للسودان على المستوى الدولي، ويُعقّد التنسيق المطلوب داخليًا بين قطاعات المياه والزراعة والطاقة والبيئة، مما يهدد الأمن المائي، ويحد من قدرة السودان على إدارة ملفاته العابرة للحدود، لا سيما في ظل التطورات الأخيرة بشأن سد النهضة، بعد إعلان إثيوبيا الانتهاء من بنائه والدعوة إلى تدشينه في سبتمبر المقبل.
هذا الواقع الجيوسياسي الحرج يُبرز حجم المسؤوليات التي تضطلع بها وزارة الموارد المائية، باعتبارها جهة فنية وسيادية ينبغي أن تحتفظ باستقلاليتها، لتتمكن من التنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين، ومواجهة التحديات الوطنية، وعلى رأسها إعادة تأهيل البنية التحتية المائية المتضررة بفعل الحرب التي عصفت بأسس الدولة.
كما أوصت الندوة بإلغاء قرار الدمج، والدعوة إلى تشكيل مجلس سيادي للمياه، يتولى مهام التخطيط الاستراتيجي، وصياغة السياسات والقوانين المنظمة، على أن يضم ممثلين من مختلف القطاعات المعنية، ويرتبط برئاسة مجلس السيادة أو مجلس الوزراء، بما يضمن تنسيقًا فعّالًا دون المساس باستقلالية الوزارة أو تفريغها من مهامها الحيوية.
فالسودان، بوصفه دولة محورية في حوض النيل، لا يمكنه التعامل مع ملف المياه كخدمة تابعة، بل ينبغي النظر إليه كمورد سيادي يرتبط بمصالح داخلية وخارجية دقيقة. وإن دمج وزارة الموارد المائية في وزارة الزراعة – في هذا التوقيت الحرج – يُضعف القدرة الوطنية على التصدي لملفات كبرى مثل سد النهضة، والتغير المناخي، واتفاقيات تقاسم المياه.
وسط هذا الجدل، طُرح مراقبون مقترح جدير بالاهتمام : استحداث وزارة باسم “الموارد المائية والبيئة”، تشمل مهام المياه والسدود وحصاد المياه والمياه الجوفية، إلى جانب اختصاصات البيئة والتنمية المستدامة. وهو خيار ينسجم مع الاتجاهات العالمية الرامية إلى تكامل السياسات البيئية والمائية، ويحفظ في الوقت نفسه الاستقلالية الفنية، ويوفر منصة مؤسسية حديثة لمواجهة التحديات المتزايدة.
المسألة إذن لا تتعلق بهيكل إداري فحسب، بل بمستقبل وطن. فهل تنتهز الحكومة هذه الفرصة لإصلاح حقيقي؟ أم تمضي في طريق تذويب المؤسسات الوزارية في كيانات أوسع باسم الكفاءة الإدارية، على حساب المصلحة الوطنية العليا؟
بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن الأمن المائي في السودان ليس مجرد ملف إداري، بل هو محور استراتيجي لا يجوز التفريط فيه. وأي إصلاح في هذا المجال يجب أن يستند إلى دراسات علمية عميقة ، ومشاركة فعلية من أصحاب المصلحة، بعيدًا عن القرارات الأحادية التي قد تُضعف قدرة السودان على حماية حقوقه المائية، وتعزيز استقراره، ومواجهة التحديات المستقبلية.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 4 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com