زاوية خاصة نايلة علي محمد الخليفة *حمى الضنك… من فزع البدايات إلى بروتوكول التجربة*
زاوية خاصة
نايلة علي محمد الخليفة
*حمى الضنك… من فزع البدايات إلى بروتوكول التجربة*
تعيش ولاية الخرطوم هذه الأيام على وقع انتشار حمى الضنك ، في مشهد يعيد إلى الأذهان بدايات ظهور المرض في ولايات الشرق ، خاصة كسلا والقضارف ، حيث عرف الناس لأول مرة لسعات البعوضة النهارية التي تنقل المرض من مستنقعات المياه العذبة ، فالمشاهد اليوم من مستشفيات مكتظة ، صيدليات خالية من دربات البندول ، حالات وفاة متفرقة ، وهلَع عام وسط المواطنين وشكوى من إنعدام دربات البندول ، وارتفاع أسعار حبوب البندول ، لا تختلف كثيراً عما حدث في كسلا قبل سنوات .
حمى الضنك مرض فيروسي تنقله بعوضة الزاعجة المصرية ، وتنتشر بشكل أكبر في مواسم الخريف بفعل تكاثرها في المياه ، تبدأ أعراضه بارتفاع حاد في درجات الحرارة ، صداع شديد ، آلام قاسية في المفاصل ، وهزال عام ، وتكمن خطورته في تأثيره على الصفائح الدموية ، وهو ما يفسر التحذير من تناول بعض المسكنات عدا البندول ، حتى لا تتفاقم حالة المريض .
أثبتت التجربة في ولايات الشرق أن التعامل السليم مع حمى الضنك لا يحتاج لتعقيدات كبيرة ، وإنما لاتباع بروتوكول واضح يقوم على الإكثار من شرب السوائل بمتوسط لتران إلى ثلاثة لتر من الماء يومياً إن أمكن ، وتناول حبتين من البندول كل ست ساعات كمسكن وخافض للحرارة ، واللجوء إلى دربات البندول للحالات التي تعجز فيها عن السيطرة على الحمى ، مع المتابعة بفحص الصفائح الدموية ( CPC ) كل يومين ، وتجنب أي مسكنات أو أدوية أو اطعمة قد تساهم في تكسير الصفائح .
وإلى جانب هذا البروتوكول الطبي ، أفرزت التجربة الشعبية في كسلا والقضارف وصفة بسيطة أثبتت نجاعتها في رفع الصفائح ، وهي غلي القرع العسلي وتناوله كعصير بعد إضافة قليل من التبلدي أو العرديب ، ويمكن خلطه مع الفانيليا لتغيير النكهة أو إضافة قليل من عصير الفيمتو ، وقد اعتمدها كثير من المرضى هناك كجزء من البروتوكول الشعبي المساند للعلاج الطبي .
هذا البروتوكول البسيط ساعد في تخفيف معاناة المرضى ، وسرعان ما انتقل التعامل مع المرض من حالة الذعر إلى خانة الاعتياد ، حتى أن كثيراً من المصابين في كسلا أو القضارف اليوم يكتفون بتطبيق البروتوكول منزلياً ، مع مراجعة المعمل لقياس الصفائح فقط ، دون الحاجة المستمرة إلى الطبيب ، وفي بدايات المرض بكسلا ، كانت الوفيات بالجملة ، العيادات تعج بالمرضى ، والكوادر الصحية تواجه ضغطاً هائلاً ، ومع مرور الوقت ، وبتكرار مواسم الانتشار ، اكتسب المجتمع خبرة في التعامل مع المرض ، بدءاً من الوقاية عبر النوم تحت النواميس في ساعات نشاط البعوض ( بعد الشروق وقبل الغروب ) ، وصولاً إلى تطبيق البروتوكول العلاجي طبي وشعبي بحذافيره ، واليوم أصبحت حمى الضنك في شرق السودان ” مرضاً عادياً ” ، لا يثير الفزع كما في بداياته ، بل يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع أي نزلة موسمية .
ما يجري حالياً في الخرطوم يشبه تماماً ما حدث في كسلا والقضارف ، ازدحام المستشفيات ، نقص الأدوية ، حالات وفيات ، وهلَع واسع ، غير أن التجربة في ولايات الشرق تقدم دروساً ثمينة يجب أن تستوعبها الخرطوم سريعاً ، عبر نشر الوعي الصحي بطرق الوقاية مثل النوم داخل الناموسية والتخلص من المياه الراكدة ، والنظافة المستمرة ، والالتزام بالبروتوكول العلاجي وعدم اللجوء إلى مسكنات عشوائية ، وتعزيز الإمداد بدربات البندول وأجهزة فحص الصفائح في المستشفيات والمعامل ، وإدماج المجتمع في المواجهة ، كما فعل أهل كسلا عندما تحولت التجربة إلى ثقافة صحية عامة .
ورغم أن غالبية المصابين يتعافون بالالتزام بالبروتوكول ، إلا أن الخطر الأكبر يظل ماثلاً أمام الأطفال وأصحاب الأمراض المزمنة ، ما يتطلب عناية خاصة بهم وتوفير بيئة صحية آمنة .
ولعل تجربة حمى الضنك تشبه في جانب كبير طرفة سودانية متداولة ، فيحكى أنه بدايات دخول الكهرباء إلى بعض القرى ، كان الأهالي يخشون لمس مفاتيح الإضاءة بأيديهم ، ظناً منهم أنها تصعق مثل أسلاك الضغط العالي ، حتى أن بعضهم كان يطفئ اللمبة بالعصا ، لكن مع مرور الوقت اكتشفوا أنها مجرد زر صغير لا ضرر منه ، فتحول الخوف إلى عادة يومية عادية ، وهكذا حمى الضنك في السودان ، ما أن يُفهم بروتوكولها العلاجي حتى يتراجع الهلع ، وتصبح جزءاً من خبرات الناس في مواجهة الأمراض الموسمية .
حمى الضنك ليست مرضاً مميتاً بالضرورة ، بل حالة يمكن السيطرة عليها بالوعي والالتزام ، ما حدث في كسلا والقضارف يؤكد أن المرض ، مهما بدا مخيفاً في البداية ، يمكن أن يُهزم بقوة المجتمع والتعامل العلمي المبسّط ، ولعل الخرطوم اليوم على موعد مع إعادة إنتاج نفس التجربة ، لكن بفرصة اكبر ، أن تتعلم من ولايات الشرق ، قبل أن يدفع مواطنوها ذات الثمن الباهظ …. لنا عودة.