منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي *الخرطوم نيروبي إرادة تصنع الجمال*

0

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

 

*الخرطوم نيروبي إرادة تصنع الجمال*

 

خلال زيارتي مؤخرًا إلى نيروبي، عاصمة كينيا، ضمن وفد مشارك في ورشة عمل خاصة بحوض النيل الشرقي، كانت الرحلة فرصة تأمل ومقارنة بين واقعين: أحدهم يعيش التحول ويستثمر في التنمية والاستقرار والآخر يراوح مكانه بسب المؤامرة و الصراعات وغياب الرؤية.

نيروبي تبدو نموذج حي لعقلية تخطيط عصرية، استطاعت أن تدمج بين الجمال العمراني والحلول الذكية والبنية التحتية الفعالة. المدينة التي كانت في الأصل محطة قطار عام 1899 أصبحت اليوم واحدة من أسرع العواصم الإفريقية نموًا ، عمرانياً، و اقتصاديًا ،وجماليآ .

المثير في التجربة الكينية هو اعتماد نموذج التمويل الذكي لمشروعات البنية التحتية الذي يتيح تنفيذ مشاريع ضخمة دون تحميل الدولة أعباء مالية مباشرة عبر نظام البناء التشغيلي المتحول الذي يعرف اختصارا (BOT).

هو آلية تعتمد على شراكة بين القطاع الخاص والحكومة، تُتيح تنفيذ مشروعات البنية التحتية الكبرى دون أن تتحمل الدولة تكاليفها مباشرة. حيث يقوم مستثمر خاص بتمويل وبناء المشروع، ثم يتولى تشغيله لفترة زمنية متفق عليها، يسترد خلالها استثماره من خلال رسوم أو عائدات تشغيل، قبل أن تعود ملكية المشروع بالكامل إلى الدولة.

يُعد هذا النظام وسيلة ذكية لتحفيز الاستثمار، وتقليل الضغط على الموازنة العامة، وضمان جودة واستدامة الخدمات المقدّمة.

وقد ظهر ذلك بوضوح في الطرق و الجسور المعلقة بنيروبي، التي عالجت مشكلة الازدحام المروري بفعالية. المواطن أمامه خياران: استخدام الطريق العام مجاناً، أو الدفع مقابل استخدام البنية التحتية المتقدمة لتوفير الوقت والراحة. هذه المنظومة لا تعني فقط كفاءة، بل تعكس احتراماً لحرية الاختيار وربطاً مباشراً بين الخدمة وقيمتها.

خلال جولتنا، كان من المستحيل تجاهل الأبراج الشاهقة، الأسواق الحديثة، والمناطق الترفيهية، والتي تشهد تدفقًا واضحًا لرؤوس الأموال الأجنبية والمحلية. السؤال المركزي الذي فرض نفسه: كيف نجحت كينيا، وهي شقيقة في الجغرافيا والتاريخ، في جذب الاستثمار وتوظيفه بهذه الحرفية؟

الجواب يكمن في الرؤية والتخطيط والالتزام بالقانون. تلك العناصر الثلاثة تشكل البنية الأساسية لأي نهضة عمرانية واقتصادية. القوانين هناك محترمة، لا تُخترق بالمحسوبية، والرؤية واضحة، تستشرف المستقبل، والخطط التنفيذية واقعية وذات جداول زمنية دقيقة.

وفي المقابل، نجد الخرطوم، عاصمتنا الوطنية ، تحتضر عمرانياً رغم ما تملكه من مقومات طبيعية وبشرية هائلة. يكفي أن تلتقي عندها مياه النيلين الأزرق والأبيض، في لوحة جمالية بديعة، كان يمكن أن تُصاغ في شكل تحفة عمرانية تضع الخرطوم في مصاف العواصم العالمية. لكن غياب الرؤية والتخطيط، واستسهال الفوضى، عطّل هذا الحلم لسنوات طويلة.

ولعل ما يُبقي بصيص أمل هو الحديث الجاري حالياً داخل دوائر القرار حول إنشاء عاصمة جديدة. لجنة الفريق إبراهيم جابر بدأت بالفعل بالإشارة إلى هذه الفكرة، لكننا ما زلنا ننتظر أن تتحول التصريحات إلى مخططات وتصاميم عمرانية تلامس الخيال وتحرك الأمل، فالعواصم لا تُبنى بالإرادة السياسية وحدها، بل بالإبداع والإدارة الذكية والشراكات الفعالة.

وفي هذا السياق، ينعقد هذه الأيام في موسكو الاجتماع الوزاري المشترك بين السودان وروسيا، برئاسة وزير المعادن من الجانب السوداني ووزير الموارد الطبيعية والبيئة من الجانب الروسي، وبمشاركة ممثلين من الوزارات والقطاعات الاقتصادية في البلدين.

ورغم الطابع الفني للاجتماع، إلا أنه يشكّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة السودان على العودة إلى طاولة الشراكات الدولية، كشريك يُقدّم مشاريع جاذبة في مجالات مثل إعادة الإعمار، والبنية التحتية، والتعدين . كذاك بالإمكان تحويل هذه الفرصة إلى بوابة لاستقطاب استثمارات نوعية عبر نماذج تمويل ذكية، كالذي اعتمدته نيروبي بنجاح في نهضتها العمرانية.

فالعاصمة الجديدة، إذا أُريد لها أن تكون نقطة تحول، لا يمكن فصلها عن سياسة خارجية مرنة، تستند إلى المصلحة الوطنية وتُوظّف علاقات السودان الدولية في خدمة مشروع تنموي حقيقي وفقا لأسلوب عصري.

العالم اليوم مليء برؤوس الأموال المتنقلة، التي تبحث عن بيئات مستقرة، رؤية واضحة، ونماذج شراكة موثوقة. والسودان، إذا ما أراد فعلاً أن يصنع عاصمة جديدة، عليه أن ينشئ جهازاً متخصصاً لجذب الاستثمارات، يقدم للمستثمرين مشاريع جاهزة ذات تصاميم مبتكرة، ويمنحهم الحوافز الكفيلة بتحفيزهم للدخول في شراكات طويلة الأمد.

ما يحتاجه السودان في هذه المرحلة عقلًا مركزيًا جديدًا لإدارة الدولة. فالعاصمة هي تجسيد لروح النظام السياسي، وكفاءة الإدارة، ونزاهة القرار. إنها المرآة التي تنعكس فيها صورة الدولة أمام مواطنيها وأمام العالم. نيروبي، رغم ما تواجهه من تحديات ملتبسة ، قدمت نموذجًا يُثبت أن التحوّل الحضري ليس معجزة، بل نتاج إرادة سياسية واضحة، وعقل مؤسسي منضبط، وشراكة ذكية مع القطاع الخاص.

ما نترقبه اليوم بحسب #وجه_الحقيقة ليس مجرد انتقال ، بل فرصة لإعادة تعريف الخرطوم كمركز للحكم والتخطيط الذكي والدور الإقليمي الفاعل. وإذا أردنا عاصمة جديدة، فلنبدأ أولًا ببناء دولة القانون والكفاءة والشفافية. حينها ستكون العاصمة، أيًا كان موقعها، انعكاسًا صادقًا لشعب لا يزال يؤمن بالمستقبل ويستحق أن تكون له عاصمة يفاخر بها.
دمتم بخير وعافية.
الخميس 25 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

 

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.