*هل يستطيع أهل الشمال إدارة دولتهم إذا انفصلت دارفور؟* *قراءة في جذور الفشل وإمكانات النهوض* كوداويات ✍️ محمد بلال كوداوي
0٠
*هل يستطيع أهل الشمال إدارة دولتهم إذا انفصلت دارفور؟*
*قراءة في جذور الفشل وإمكانات النهوض*
كوداويات ✍️ محمد بلال كوداوي

منذ لحظة خروج المستعمر ورفع علم الاستقلال في (1956) ظلّ سؤال القدرة على بناء دولة حديثة يطارد السودان في شماله وغربه وشرقه ووسطه.
ومع تصاعد الحديث اليوم عن احتمال انفصال دارفور ومطالبة النخب الشمالية هذه الفكرة بجدية يطفو على السطح سؤال أكثر حساسية وخطورة:
*هل يستطيع أهل الشمال إدارة دولة مستقلة بفعالية؟ أم سيستمر ذات الفشل البنيوي الذي لازم السودان منذ الاستقلال؟*
هذا سؤال ليس سياسياً فقط بل سؤال وجودي يمسّ هوية شمال السودان ودوره وتاريخه وقدرته على إدارة نفسه بعيداً عن “شماعة الآخر”.
*أولاً: لماذا فشل الشمال ومعه السودان منذ الاستقلال؟*
1. النخب المركزية الهشّة
منذ فجر الاستقلال انحصرت السلطة في طبقة صغيرة من النخب المركزية سواء مدنية أو عسكرية والتي لم تمتلك رؤية لبناء دولة بل مارست سياسة الإطفاء المؤقت للأزمات.
كانت تملك التعليم ولم تملك الخيال
تملك السلطة ولا تملك المشروع.
2. المركزية الخانقة
صُنعت الخرطوم على طريقة المستعمر:
مدينة مركزية تمتص كل شيء وتمنح الفتات للأقاليم.
هذه المركزية قتلت الابتكار همّشت المواهب وخلقت دولة “عاصمية” وليست دولة وطن.
3. غياب المؤسسات
لم يُبنَ نظام قضائي مستقل ولا جهاز خدمة مدنية مهني ولا منظومة محاسبة شفافة.
تحولت الدولة إلى شبكة محسوبيات وقبليات يعلو فيها الولاء على الكفاءة.
4. الاقتصاد الريعي المعتمد على الخارج
فالشمال ظل يعتمد على صادرات بدائية لا تبني دولاً: صمغ، قطن، ذهب يُهرَّب، وتحويلات المغتربين.
لم تُخلق صناعة ولا زراعة حديثة ولا استثمار طويل الأمد.
5. تآكل الأخلاق العامة
تغلغل الفساد وتكسرت القيم وتحول كثير من المسؤولين إلى “جباة” لا “خُدّام”.
وهذا فساد يسبق القانون لأنه فساد في النفوس قبل النصوص.
*ثانياً: هل يستطيع الشمال إدارة دولته إذا انفصلت دارفور؟*
الإجابة ليست نعم ولا
بل: يعتمد ذلك على أي شمال نريد؟
إذا بقي الشمال كما هو الآن:
• خدمات منهارة
• دولة بلا مؤسسات
• اقتصاد بلا إنتاج
• وتنافس قبلي وجهوي
• وتدخلات خارجية في كل شبر
فإن الانفصال لن يغيّر شيئاً
بل قد تنتقل الفوضى إلى الداخل بوتيرة أسرع.
أما إذا تحوّل الشمال إلى كيان يريد بناء نفسه وفق قواعد جديدة فسيكون قادراً على النهوض وربما لأول مرة منذ 70 عاماً.
*ثالثاً: ما المطلوب؟ خارطة طريق مختصرة لنهضة الشمال*
1. تأسيس دولة مؤسسات لا أشخاص
إنشاء منظومة حكم حديثة:
• قضاء مستقل
• خدمة مدنية محايدة
• شرطة احترافية
• نظام محاسبة صارم
بدون هذا، لا يمكن لأي دولة شمالاً أو غيره أن تنجح.
2. اللامركزية الحقيقية
تقسيم الشمال إلى ولايات قوية مالياً وإدارياً
تتخذ قراراتها بنفسها
وتُنتج مواردها
وتُحاسِب مسؤوليها محلياً.
3. اقتصاد يعتمد على الإنتاج
الشمال يملك موارد ضخمة لو أُديرت بعقل:
• الزراعة النيلية والميكانيكية
• الثروة الحيوانية
• الذهب والمعادن
• السياحة النوبية
لكن كل ذلك يحتاج عقل الدولة لا عقل الجباية.
4. إصلاح التعليم وإعادة صياغة الإنسان
النهضة ليست طرقاً وجسوراً فقط .
بل إنساناً منتجاً وواعياً.
هذا يتطلب:
• مناهج حديثة
• تدريب مهني
• محاربة الأمية
• ترسيخ قيم العمل والانضباط والشفافية
5. السيطرة على الفساد
لا نهضة بلا قطع دابر الفساد المالي والإداري
ووضع قوانين تُطبّق على الجميع بلا حصانات وهمية ولا خطوط حمراء.
رابعاً: الرسالة الأهم
إنفصال دارفور إن حدث لن يمنح الشمال عصاً سحرية.
ولن يزيل الفشل تلقائياً.
ولن يخلق دولة ناجحة بين يوم وليلة.
*المشكلة لم تكن يوماً في الجغرافيا… بل في الطريقة التي أُديرت بها الدولة.*
إذا أدرك الشمال ذلك
وتحرر من إرث النخب العاجزة
وأسس دولة مؤسسات
فسيكون قادراً لا على إدارة نفسه فقط
بل على خلق نموذج ملهم لبقية السودان أياً كان شكله وحدوده.
أما إذا ظل يكرر نفس الأخطاء
فستبقى الدولة كما كانت:
تعيش نصف قرن إضافي من الفشل
وتحلم بنهضة لم تأتي .
