خبر وتحليل – عمار العركي *أسمرا تتحرك بثقة… والخرطوم لم تبارح التردد وغياب القرار*
خبر وتحليل – عمار العركي
*أسمرا تتحرك بثقة… والخرطوم لم تبارح التردد وغياب القرار*

• تحركات “أفورقي” من بورتسودان إلى الرياض تكشف أن “أسمرا” لا تتحرك بردود الفعل، بل وفق استراتيجية متصلة الحلقات، تُعيد فيها هندسة موقعها في البحر الأحمر، مما جعل الرياض تدعو أفورقي لزيارة تستمرت أربعة أيام، وتتقدم وحدها بعد ” تردد الخرطوم وبرودة الأجواء في بورتسودان” وتعدد الرؤى ومراكز القرار.
• ورغم أن إعلان وزير الإعلام الإريتري “يماني قبرمسكل” ، اكتفى بالحديث عن “ملفات التعاون والتنسيق”، فإن جوهر وجود “أفورقي” في الرياض ولمدة اربعة أيام أبعد من ذلك بكثير.
•فالسعودية ليس سعودبة الأمس، وهي التي تمثل نقطة الارتكاز في الضفة الشرقية للبحر الأحمر، بينما تمسك “إريتريا” بأطول السواحل وأكثرها حساسية في الضفة الإفريقية، في توازن استراتيجي، ومعادلة أمنية واقتصادية وسياسية جديدة يُعاد صياغتها.
• “أفورقي” الرئيس الأفريقي المخضرم ، ظل يقرأ في هدؤ المشهد بأبعاده الثلاثة : موقع السودان، موقع السعودية، وموقع القوى الإقليمية الطامحة. ومن هنا يتضح أن زيارة الرياض، وقبلها بورتسودان، امتداد طبيعي لمسار واحد، تُعيد فيه أسمرا تموضعها داخل خارطة البحر الأحمر، وتبحث فيه السعودية عن شريك قادر ومتمكن.
• والسؤال الذي يتبادر ويكشف المفارقة: لماذا تبدو أسمرا أكثر حضورًا في صياغة مستقبل البحر الأحمر من الخرطوم.؟ رغم أن السودان هو البلد الأكبر والأكثر تأثرًا بما يجري؟ ولماذا تنجح إريتريا في بناء علاقة متماسكة مع الرياض بينما لا يزال السودان عاجزًا عن تثبيت علاقة استراتيجية مستقرة مع جارته الأقرب؟
• الإجابة لا تتعلق بإريتريا بقدر ما تتعلق بالسودان. غياب مركزية القرار، تعدد دوائر الإدارة غير المتناسقة، وغياب رؤية موحدة للعلاقات الإقليمية، خاصة مع إريتريا،
وفي المقابل تتحرك “أسمرا” وفق استراتيجية متكاملة: “توسع خيوط التنسيق مع الخرطوم”، “تعمق محورها مع الرياض”، “وتثبت وجودها في معادلات البحر الأحمر والقرن الإفريقي” باعتبارها دولة فاعلة لا مجرد جار متردد وقلق.
• وبينما تتحرك “أسمرا” بثقة في فضاء البحر الأحمر والقرن الإفريقي، تُفتح في المقابل جبهة أخرى لا تقل خطورة على تماس السودان وإريتريا مع الملف الإثيوبي. ممثلة في خطوة الاتحاد الإفريقي والإيقاد لرعاية اتفاق “ناقص التمثيل” بين “الحكومة الإثيوبية وبعض فصائل الأمهرة”، تأتي الخطوة استمرارًا لذات النمط الذي سبق تطبيقه في ملف التقراي ” اتفاقات تُولَد خارج الشرعية الداخلية للفصائل”، لكنها تُمنح غطاءً إقليميًا شكليًا عبر منصات دولية لتحقيق مصلحة اثيوبية داخلية وأخري خارجية إماراتية .
• هذا الدور والاسلوب ، الذي تبنّته أديس أبابا بوضوح، لا يهدف لتسوية النزاعات بقدر ما يخلق “خصوم منزوعي التمثيل” يوقعون باسم فصائلهم بينما القواعد الفعلية على الأرض ترفض الاتفاق وتستعد لمرحلة صدام جديدة يعود بالنفع لاثيوبيا والامارات .
• تداعيات هذا المسار لا تقف عند حدود إثيوبيا الداخلية. الهشاشة الناتجة عن تفتيت فانو— تمامًا كما حدث في التقراي — بل تتسرب تلقائيًا نحو الخرطوم وأسمرا ، ليواجه السودان بوابة جديدة في شرقه وعبور حركة الامداد والتسليح ، و دخول المرتزقة، بينما “إريتريا” ترى في الاتفاق محاولة لتحجيم دورها الإقليمي وتقليص قدرتها على التأثير في توازن القوى داخل الهضبة الإثيوبية، عبر خلق وقائع سياسية مصنوعة تحت رعاية الهيئات الإقليمية.
• الأخطر أن هذا النمط يُعيد تشكيل المشهد على نحو يسمح لإثيوبيا بخلط ملفاتها الداخلية مع حساباتها الخارجية، خاصة تجاه “الخرطوم وأسمرا”. كل اتفاق هشّ في الشمال يتحول مباشرة إلى ملف حدودي، ورقة ضغط في البحر الأحمر، وأداة تفاوض في يد “أديس أبابا”، مستفيدة من غطاء “الإيقاد والاتحاد الإفريقي”
• بالتالي ، يصبح من الواضح أن أي حراك اريتري لا يمكن فصله هذا التهديد وضرورة تفكيكه باعتتباره يمس أمنها القومي المباشر، بينما السودان دون حراك حيال مخططات و اتفاقات تُصنع وتُشرع في أديس أبابا وتُنفّذ في الخرطوم والقلابات والقضارف.
• ما بين زيارة بورتسودان وزيارة الرياض، تكشف تحركات أفورقي أن الإقليم يتحرك نحو ترتيبات جديدة، وأن نافذة التأثير السوداني لن تبقى مفتوحة إلى الأبد، وأن الفراغ الذي تتركه الخرطوم تملؤه عواصم أخرى بسرعة، بينما أسمرا تستخدم الزيارات لصناعة مسار، وبينما تحدد إريتريا ما تريد من الجغرافيا والسياسة، لا يزال السودان عاجزًا عن تحديد ما يريد من نفسه قبل أسمرا والرياض.
*خلاصة القول ومنتهاه:*
• السودان يملك الموقع والتاريخ السياسي الإقليمي والتأثير، ولا يملك قرار الفعل والتفعيل، ويملك الجغرافيا ولا يملك إدارة توظيفها. وما لم تُحسم هذه المعضلات، سيظل الطريق الواضح المعالم مفتوحًا ومتاحًا لاحقًا للآخرين أكثر مما هو مفتوح ومتاحًا الآن للسودان. الإقليم يعيد ترتيب أوراقه بسرعة ويتشكل من جديد، والبحر الأحمر لا ينتظر المترددين، ومن لا يحدد موقعه وموضعه يُحدده الآخرون نيابة عنه وفق مصالحهم.
