منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

“فاغنر” في أفريقيا ما بعد بريغوجين

0

تقاطع وجود قائد مجموعة “فاغنر” العسكرية الراحل يفغيني بريغوجين في السماء الأفريقية، مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف. الأول كان عائداً من جولة أفريقية إلى موسكو، والثاني كان متوجها إلى بنغازي في ليبيا، من أجل لقاء اللواء المتقاعد خليفة حفتر. والقاسم المشترك بين الرجلين، هو مستقبل قوات “فاغنر” في أفريقيا، بعد الهزة التي تعرضت لها، إثر حركة التمرد في 24 يونيو/حزيران الماضي.

زيارة نائب وزير الدفاع الروسي إلى حفتر ذات بعدين. الأول ليبي، إذ نقل رسالة تطمينات من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى حفتر، تعلمه بأن التحالف متواصل، ولن يتغير من جراء المستجدات التي تشهدها “فاغنر”، وتعتزم روسيا تعزيز الشراكة مع حفتر في ليبيا وأفريقيا.

البعد الثاني أفريقي، في ظل ما تشهده القارة من تحوّلات سياسية واقتصادية مهمة، بعد أن عادت إلى دائرة الاهتمام الدولي في العقد الأخير، وباتت تشكل بالنسبة لروسيا منطقة حيوية أمنياً وسياسياً واقتصادياً.

وأراد بوتين أن يوصل رسالة لقادة أفريقيا بأنهم يستطيعون التعويل على روسيا، التي تجد نفسها عاجزة عن منافسة دول أخرى مثل فرنسا والصين والولايات المتحدة على صعيد بناء البنى التحتية، ولكن لديها ذراع ضاربة هي “فاغنر”، التي أصبحت قوة فاعلة بعد أن دعمت أكثر من انقلاب ناجح.

حفتر حليف روسيا في ليبيا، الذي فتح لها باب التدخّل في شؤون هذا البلد، عندما دعمته عسكرياً منذ عام 2017، وبفضل العلاقة الوطيدة معه، باتت لها عدة قواعد عسكرية جوية مهمة في مناطق انتشار قواته، خصوصاً في الجفرة، جنوبي سرت، وهي قاعدة متخصصة بأنظمة الدفاع الجوي، وترابط فيها طائرات حربية روسية، وعلى اتصال بقاعدة حميميم على الساحل السوري.

والقاعدة الثانية التي تتواجد فيها “فاغنر” هي الخروبة على بعد 150 كيلومتراً من بنغازي، وقد أعيد تأهيلها عام 2016 بمساعدة من الإمارات، حين كانت خارج الخدمة، وتستخدمها “فاغنر” منذ بداية الحرب في السودان لدعم قوات الدعم السريع، إذ يتم نقل العتاد العسكري منها إلى قاعدة الكفرة على الحدود السودانية الليبية.

وقد تعرضت للقصف في نهاية يونيو الماضي من قبل طائرات مسيّرة. لف تلك الضربات الغموض، لجهة الطرف الذي قام بها أو المستهدف منها. وجرى تداول أنباء على نطاق واسع تقول، إن حكومة طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة هي التي قامت بضربات تحذيرية لقوات حفتر. وفي تفسير آخر أن الضربات روسية من أجل تحذير “فاغنر” من التحرك، بعد تمرد بريغوجين.

يجري استخدام هذه القواعد لعدة أغراض داخل ليبيا وخارجها. في الداخل من أجل دعم حفتر، كما تشكل نقاط انطلاق إلى مواقع أخرى في أفريقيا، ومراكز تحكّم “فاغنر” ونشاطها في عدة بلدان أفريقية، وعلى نحو خاص أفريقيا الوسطى، بوركينا فاسو، مالي، السودان. وتعد الخروبة موقعاً لعبور العتاد العسكري القادم من خارج ليبيا باتجاه مراكز “فاغنر” في الجفرة، وغيرها من المواقع في الجنوب الليبي.
قواعد “فاغنر” في ليبيا
وتؤكد مصادر ليبية وسودانية وغربية أن قواعد “فاغنر” في ليبيا، تؤدي دوراً مهماً منذ بداية النزاع السوداني لصالح قوات الدعم السريع، وهذا ما يفسر لقاء بريغوجين، في رحلته الأفريقية الأخيرة، مع عدد من قادتها الذين قدموا على متن طائرة خاصة من دارفور في السودان إلى أفريقيا الوسطى. وتستخدم “فاغنر” قاعدة الخادم في شرق ليبيا لتدريب مقاتلي الدعم السريع.

وعلى الرغم من أن حرب حفتر لم تحقق أهدافها بحسم النزاع لمصلحته، واضطر إلى قبول وقف إطلاق نار في عام 2020، إلا أن “فاغنر” لم تغادر ليبيا، وبقيت موجودة في عدد من القواعد الجوية في الجنوب والشرق، حيث ينشط آلاف من عناصرها في منطقة الموانئ النفطية. ويقول باحثون إن لها مصالح تجارية في ليبيا، تشمل إنتاج الطاقة وشبكات تهريب محلية.

وبالإضافة إلى تجنيد سوريين، عملت “فاغنر” بمعاونة مقاتلين أجانب من السودان وتشاد وأماكن أخرى. ليبيا وأفريقيا الوسطى دولتان غنيتان، وباتت “فاغنر” منافساً لكل من فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة، الصين، وتركيا. ومن حسن حظ موسكو أنها تتعامل مع زعماء، لم يصلوا إلى مناصبهم بطرق شرعية وأغلبهم انقلابيون وفاسدون، يحتاجون روسيا وتحتاجهم.

وتحقق “فاغنر” عائدات مالية كبيرة من أفريقيا، ودورها يتجاوز كونها وكيلاً لروسيا في أفريقيا على صعيد تقديم الخدمات الأمنية، إلى مهمة استخراج الثروات الطبيعية من القارة مثل الذهب والماس والمعادن الثمينة وجلبها إلى روسيا من أجل تمويل حرب أوكرانيا.

وبقي هذا النشاط مبعث قلق للولايات المتحدة، وركزت زيارات المسؤولين الأميركيين على دور “فاغنر” التخريبي في أفريقيا انطلاقاً من ليبيا، وآخرهم مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، باربرا ليف، في إبريل/ نيسان الماضي، التي قالت إنها تحدثت مع حفتر “حول الحاجة الملحّة لمنع الجهات الخارجية، بما في ذلك مجموعة فاغنر المدعومة من الكرملين، من زيادة زعزعة استقرار ليبيا أو جيرانها، بما في ذلك السودان”، وفقاً لتغريدة نشرتها السفارة الأميركية لدى ليبيا على منصة “إكس” (تويتر سابقاً).

“فاغنر” أصبحت متجذرة في أفريقيا، ولديها علاقات متشعبة هناك، ومن المنطقي أن تحتفظ بها روسيا، ولكن تحت يد بوتين مباشرة، وليس أي زعيم آخر يتصرف على أساس أنها شركة مملوكة له يشغلها لحسابه الخاص.

ولذا أصدر بوتين مرسوماً يلزم الشركات الخاصة بأداء القسم والولاء التام، وهذا أمر لم يخترعه بوتين، بل هو مبدأ ثابت في التاريخ الروسي القيصري، وخلال الحكم السوفييتي، خصوصاً في عهد جوزيف ستالين الذي أعدم الملايين من أجل ذلك.

“فاغنر” شكل جديد من توظيف المرتزقة الروس، وقد فوجئت الأوساط لحظة مصرع بريغوجين في 23 أغسطس/آب الماضي، بأن هذه المجموعة ليست وحدها، بل هناك مليشيات أخرى عدة تقاتل في أوكرانيا، وهي من خارج القوات الروسية التابعة لوزارة الدفاع، وتتبع لأجهزة ودوائر تتولى دور التجنيد. وبعد مقتل بريغوجين تم وضع جميع الشركات تحت الإدارة الرسمية، وتوجيه الجهد بصورة أساسية نحو الحرب في أوكرانيا.

وفي عام 2005 وقّع بوتين قانوناً تحت اسم “الخدمة الحكومية للقوزاق الروس”، وذلك في مجال حماية الحدود والمواقع الحكومية والإدارية، وحراسة الغابات، ومحاربة الإرهاب، وبذلك شكّل هؤلاء مجموعة يتجاوز تعدادها نصف مليون، تتلقى رواتب من الدولة. وجرى توظيف بعض هؤلاء في حرب الشرق الأوكراني، في عام 2014، قبل أسابيع من ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية.

ولا يقتصر تجنيد المرتزقة من القوميات الأخرى على الخدمة في الداخل، بل تعتمد روسيا بكثرة في حروبها الخارجية على هؤلاء المجندين، كما حصل في سورية في عام 2018 عندما أرسلت موسكو شرطة عسكرية مكونة من الشيشانيين والأنغوشيين، لإدارة المناطق التي استولت عليها القوات الروسية من مجموعات المعارضة المسلحة.
جرى الحديث عن استحالة استمرار “فاغنر” بنفس النشاطات وعلى ذات الوتيرة بسبب الاضطراب الذي خلفه تمرد بريغوجين، وتم تسريب تحليلات من مصادر قريبة من حاشية بوتين تقول إنه من المستحيل المصالحة بين الرجلين، وطيّ صفحة التمرد وكأن شيئاً لم يحصل، ومجرد احترام الاتفاق يعني أن بريغوجين طرف في وجه بوتين، الذي قرر قتله كي يلغي هذا الوضع.

“فاغنر” بعد بريغوجين
وتشير التقديرات إلى أن “فاغنر” خلال فترة قيادة بريغوجين وبعدها ليست نفسها، وستخضع إلى تعديلات كثيرة، وليس من المؤكد أنها ستؤدي الأدوار نفسها مستقبلاً كما كانت عليه سابقاً، وتبقى على نفس القدر من الفعالية. والسبب في ذلك يعود إلى أسلوب بريغوجين في العمل، إذ أدارها مثل مطبخ، موزعاً المهام بشكل دقيق على فريق العمل لتخرج كل طبخة متقنة.

وكان يتابع بنفسه كل التفاصيل، حتى أنه يوزع الرواتب بشكل شخصي في بعض الأحيان من أكياس نقود مليئة بملايين الدولارات. وحسب تقديرات الخبراء سيكون من الصعب على أي رئيس جديد للشركة أن يملأ فراغ بريغوجين.

مقتل بريغوجين يكرر أمثلة سابقة منها على وجه التحديد رجل الأعمال بوريس بيريزوفسكي الذي يعود له الفضل في نقل بوتين من “كي جي بي” إلى العمل السياسي عام 1999، وقد أرسل له بوتين مستشاره فلاديسلاف سوركوف الملقب بساحر الكرملين وأعطاه تطمينات بالعودة، وحمله بيريزوفسكي رسالة حميمة إلى بوتين، وقبل أن يوضب أغراضه ليعود إلى موسكو، وُجد مشنوقاً في بيته قرب العاصمة البريطانية لندن.

ذلك هو تكتيك بوتين يقوم على طمأنة الخصم حتى يسترخي، ويأمن، ويشعر بأنه أصبح خارج دائرة الخطر، ومن ثم يغدر به. وهو في هذه الحالة يحقق هدفه، ويبعد شبهة القتل عن نفسه، وهذا هو المهم، على الرغم من أن كل تفاصيل العملية تدل عليه.

وفي كافة الأحوال، لم تعد “فاغنر” مبعث حرج دولي لروسيا، بعد أن أصبحت خصخصة الحروب، أمراً متفاهماً عليه دولياً، بل أن دور “فاغنر” سيكبر، بالنظر إلى تطور سوق المرتزقة كجيوش رديفة بلا قضايا أو مساءلة، والمهام التي يقوم بها هؤلاء ومنها الحروب بالوكالة.

وهي ليست وحدها، إذ هناك “بلاك ووتر” الأميركية التي تأسست عام 1997، وتعد أكبر الجيوش غير الرسمية، و”جي فور أس” البريطانية، و”ديفيون إنترناشيونال” في بيرو، بالإضافة إلى قيام بعض الدول بتوظيف مرتزقة من آسيا وأميركا اللاتينية في وظائف متعددة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.