منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

📍السفير عبد الله الأزرق يكتب:📍 المعقول واللّا معقول في العلاقات الدبلوماسية (10)

0

نيروبي (3)

تتمتّع كينيا بطبيعة جميلة، بل في بعض أجزائها ساحرة، لكن كثرة المؤامرات على السودان التي كانت تجري حولنا لم تترك لنا إلّا أوقاتاً وجيزة للاستمتاع بذلك الجمال الطبيعي، وكان ذلك ظلماً لأُسَرِنا؛ فقد كانت السفارة خلية نحل يعمل كل أعضائها في متابعة ما يجري.

زرنا بضع مرات مناطق مساي مارا، وبداية الأخدود الأفريقي العظيم، الذي يمتد عبر البحر الأحمر حتى البحر الميت، والمحمية الطبيعية حيث الحيوانات البرية، التي كان بعضها فرّ من جنوب السودان جراء الحرب والمعارك.
من طرائف تلك الفترة أن والدة زوجة صديقنا مهندس الرّي المعروف حيدر يوسف زارتهم في نيروبي، وهي مصرية. وفي برنامجهم للاحتفاء بها والترويح عنها أخذوها لمنطقة الأخدود، وهي هضبة مرتفعة تلامس السحاب. وأثناء سير السيارة أخذت السّحُب تدخل من نوافذ السيارة، فأدهش هذا السيدة المصرية وجعلها تنفعل؛ ولما بلغ دخول السّحُب أشدّه، لم تتمالك نفسها فأخذت تقول لحيدر بكل الجدية والانفعال:
“أدعو يا حيدر أدعو، أدعو يا ابني أدعو ده انت أريّب (قريب) من ربنا، أدعو ده انت أريّب من ربنا”!! وكانت طُرفة يرددها حيدر ونضحك لها ملء الأشداق.
ومن عجائب نيروبي؛ أن والدة زوجة أحد الزملاء توفيت هناك. وفي مغسلة الموتى جُهّزت وكُفّنت ووضِعت في ثلاجة الموتى في انتظار رحلة الطائرة. ولما حضر الزملاء للمغسلة في غدِ اليوم التالي وجدوا أن السُرّاق أخذوا الكفن!!!
وذلك بالنسبة لنا أمر عجيب. فقد تعودنا على المتاجرة بأكفان الموتى، أما سرِقة أكفانهم فلم نعهده!!!

ورغم المخاطر الجمة والتحديات فقد أثبت الزملاء شجاعةً وجرأةً وكانت دماء الشباب حاميةً متدفقة تِذكيها نيران وطنية وحبٍ لحماية السودان. وكان سفيرنا دكتور عبد اللطيف عبد الحميد رجلاً خلوقاً، لم يضيِّق علينا ولم يكسر لنا قلماً. وكنا نبذل له من التوقير ما هو به قمين. وكان الأستاذ عبد الدافع الخطيب – كان مراسلاً لسونا – روح تلك السفارة، يفيدنا في كل مناحي العمل الدبلوماسي. وكان في غاية الظرف. ظرفاً حاز به حب الجميع في الجالية.
ومن ذكرياتي في تلك الفترة، أنه بلغني أن زوجة جستن ياك المسلمة توفيت. وبيني وجستن ياك ما صنع الحداد؛ وكنا في خلافات دائمة في اجتماعات شريان الحياة، نمثِّل طرفين متقاتلين مشتجرين. علمت أنهم سيقيمون مراسم الوفاة لأختنا المسلمة في كنيسة. دفعتني حمية أن أذهب لأدعو لها ما دمنا لن نستطيع أن نصلّي عليها.
وبالفعل ركبت سيارتي المميزة بلوحتها الدبلوماسية، وذهبت للكنيسة. وكان ذلك تصرفاً فيه اندفاع وجرأة. وحين دخلت ساحة الكنيسة وجدتها مكتظة بجنود الحركة. ولما توقفت وقفوا كلهم مندهشين ومتوترين. ألست أنا القاتل عبد الله الأزرق كما شاع بينهم!!!
دخلت الكنيسة، وتوجهت تلقاء الجنازة ودعوت لأختنا المرحومة مطولاً؛ ثم التفت فرأيت جستن ياك؛ وذهبت له معزياً، فسالت دموعه.
وهنا تذكرت البُحتري إذ يقول:
إذا احترَبَتْ يومًا ففاضت دماؤها تذكَّرتِ القُربى ففاضتْ دُموعُها
شَواجِرُ أرماحٍ تُقطِّعُ بينهُم
شواجِرَ أرحامٍ مَلومٍ قُطوعُها

ورحم الله ابن العم المجذوب إذ يقول:
ولي في الزنج أعراقٌ مُؤثّلةٌ
وإن تشدّق في إنشادِيَ العربُ

ومَنْ مِنْ السودانيين يستطيع الادعاء بأسطورة نقائه العِرقي العربي؟؟

وعلى ذكر مقتل قرنق الذي ذكرنا آنفا، ومن عجائبه، أنّ صحيفة (المحرر) اللبنانية كتبت خبراً صغيراً، من ثلاثة سطور، قالت فيه إن قرنق سيُقتل بعد أن استنفد أغراضه!!! قتل قرنق في حدث مروحية في 30 يوليو 2005، وكتبت الصحيفة خبرها قبل أسبوع من مقتله. وأرسل سفيرنا ببيروت، ذلك الفاضل سيد أحمد البخيت، خبر الصحيفة للخارجية.
ومن كثرة المتدخلين في شأن الجنوب لا يُستبعد ضلوع أصابع أجنبية في مقتله لما أسلفنا من أسباب.
وكانت دول الجوار أشدّها تدخلاً مباشراً.
ولمّا انقسمت الحركة الشعبية إلى جناحي توريت الموالي لقرنق، وجناح الناصر (أغسطس 1991) الذي ضم المثقفين والأكثر تعليماً؛ شقّ ذلك على المتدخلين.
وكان جناح الناصر يضم أولئك المثقفين الذين سجنهم قرنق في حفرة عميقة مغطاة بالشوك، وعُذّبوا عذاباً نُكرا. ولما هربوا وانشقوا كانوا حانقين حاقدين عليه. وكان بينهم دكتور لام أكول ودكتور جون لوك والمرحوم أروك طون (كان مسلماً يكتم إيمانه) ودكتور رياك مشار وفاوستينو أتيم قوالديت. وكان قد سَرّنا ذلك الانشقاق.
في 1993 سعى الرئيس موي لتوحيد الشقين. وفي اجتماع ضم الطرفين بحضور قرنق؛ استشاط فاوستينو وسب قرنق ووصفه بالقبيح، وعيّره بخصيته الواحدة.
وكان قرنق عانى في صِغَره من فتاق في كيس الصّفَن، جعل عنده ما يُسميه السودانيين بالكُوكَة. وكان الدينكا يتشاءمون بالكوكة. وتصادف أن قتلت صاعقة أحد الأطفال الذين مع قرنق. فحمّل والده والد قرنق المسؤولية لأن أبنه المشؤوم صاحب الكُوكَة هو سبب سقوط الصاعقة على الطفل؛ وضرب والد قرنق. ولم ينسَ قرنق ضرب والده حتى بعد أن أصبح قائداً للحركة!!!

ومن ضروب التدخل في شأننا ما يلي:

طلبت من صديقي وزير الدولة للإعلام الكيني وممثل ممبسا في البرلمان شريف ناصر، دعوة دكتور مصطفى عثمان إسماعيل، الذي كان رئيساً لمجلس الصداقة الشعبية، ليجري لقاءات يشرح فيها سياستنا إزاء الجنوب، فدعاه.

ويوم وصول دكتور مصطفى فوجئت أن شريف ناصر لم يحضر للمطار لاستقباله. ولما بحثت عنه اكتشفت أنه ذهب لممبسا. وباقتراح من دكتور مصطفى ذهبنا له لممبسا. وتركت مصطفى في الفندق وذهبت لشريف في منزله. وفاجأني شريف بقوله: إن عبد الله باهبري المسؤول عن شرق أفريقيا في جهاز المخابرات السعودي، اتصل بالرئيس موي وحذره من لقاء دكتور مصطفى لأنه “متطرف إسلامي” على حد تعبيره؛ وبناءً على ذلك وجه موي شريف أن لا يقوم بأي ترويج وذيوع إعلامي Publicity لزيارة دكتور مصطفى؛ واعترف لي أنه خاف من موي، لذلك اختفى!!! ذكرت لَهُ أن دكتور مصطفى بروفسر في كلية الطب في جامعة الخرطوم العريقة، فكيف يكون متطرفاً!!
وحين جاء شريف ناصر للفندق ورأى دكتور مصطفي اندهش. فقد كان يتصور شخصاً غير الذي رآه؛ وسأله:
Are you Dr Mustafa? Oh God!! I was expecting somebody with a Galabia and big beard. أدهشه أن رأى شاباً أنيقاً يلبس بدلة وربطة عنق أنيقة. وبعد أن جلس وتحدث قرر أن يرتب للقاء مصطفى بالرئيس موي.

وفي اللقاء قال موي لمصطفى: They told me that you are a Muslim fundamentalist “قيل لي أنك أصولي إسلامي”. ولم يكن د. مصطفى تبريرياً أو اعتذارياً بل بادر إلى الرد بقوله:
‏And what is the problem if all Muslim fundamentalists are supporting President Moi!!
“وما هي المشكلة إذا دعم كل الأصوليين المسلمين الرئيس موي!!!
فَسَرَّ ذلك موي، وذاب الجليد فأصبح الرجل مرتاحاً وتحدث بأريحية.

📍السفير عبد الله الأزرق
—————————————
11 أكتوبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.