د. فائزة حسن طه تكتب : *ميثاق الحقوق يجب أن يسبق وضع الدستور*
نشر في الصحافة يوم 15 – 01 – 2013
كلما دخلت الدولة السودانية في عملية جديدة لوضع دستور دائم للبلاد، ارتفعت وتيرة التوجس بين قوى المجتمع المدني كافة «السياسي والاجتماعي» خوفاً من الاستبداد «الآيديولوجي» لواضعي الدستور الجديد «سواء أكان اسلامياً او علمانياً»، ذلك ان الدساتير التي وضعت في الماضي كانت تعكس ايديولوجية القوى المركزية التي كانت تسيطر على المركز اثناء وضع الدستور، اكثر مما كانت تعكس تعددية المجتمع السوداني وحقوق هذه التعددية. لهذا يمكن القول إن الدساتير في الماضي كانت معنية بتقنين وتكريس القوة السياسة «لصالح قوى معينة» أكثر من اهتمامها بقضايا الحقوق والعدالة التي كانت ومازالت تنادي بها كل قوى المجتمع السوداني سياسياً واجتماعيا.
وما يحدث الآن في السودان او حتى في المحيط العربي بعد الربيع من صراع خفيّ او معلن بين التيارات الاسلامية والعلمانية حول الدستور وآلياته، هو صراع قديم ومتجدد من وقت لآخر، يشتد اواره كلما تجددت المحاولات لاعادة صياغة الدستور «الدائم» للبلاد. بل صار هذا الصراع واحداً من أسباب الانقلابات في السودان «كما حدث في عامي 69 و85». والآن لم يعد هذا الصراع خاصة بعد الربيع العربي وصحوة الشعوب محصوراً بين الاسلاميين والعلمانيين، بل أن جميع قوى المجتمع المدني أصبحت أكثر وعياً وحساسية بحماية حقوقها الاساسية في الدستور القادم، سواء أكان اسلامياً أو علمانياً. ولهذا فإن الهم الاكبر يتوجه للمطالبة بوضع ضمانات كافية لمنع اى استبداد جديد تحت اى شعار ايديولوجي «علماني او اسلامي»، وكذلك توجيه الجهود والحيطة لمنع أى قوى سياسية من استخدم الدستور غطاءً قانونياً لممارسة الظلم او الاستبداد «السياسي او الاجتماعي».
ومن هذا المنطلق اصبحت الحقوق والعدالة الشاملة هي المطالب الاساسية للجميع، اكثر من الدستور نفسه، خاصة بعد التجارب المريرة للدساتير السابقة، سواء أكانت في السودان أو في العالم العربي، والتي كانت تنتهك كثيراً من الحقوق الاساسية تحت سمع وبصر هذه الدساتير. ولهذه الاسباب فإن اهمية وجود ميثاق للحقوق يجب أن يكون مقدماً على اهمية وجود الدستور، بل المنطق السليم يقول إن اي دستور لا يلتزم بميثاق الحقوق مبدئيا وعمليا لا يجب ان تكون له اية شرعية، حتى ولو جاء باسم العلمانية او الاسلام. وهذا التقديم والتأخير أملته التحديات الكثيرة التي تمر بها المنطقة العربية بعد الربيع او الصحوة الشعبية، والتي تتأثر بها العملية السياسية في السودان سلباً و ايجاباً، والتي تتمثل في المطالبة الشعبية بالديمقراطية، التعددية، العدالة والكرامة للجميع بدون استثناء.
وهذه المبادئ في حاجة لاطار قانوني متفق عليه من جميع الاطراف، خاصة اللاعبين السياسيين، اذ بدون وجود قواعد ثابتة للعمل السياسي ينقلب العمل السياسي الى فوضى سياسية تتحكم فيه الاهواء ومنطق القوة اكثر من حكم القانون والعدالة، وبالتالي يجب أن يكون ميثاق الحقوق ملزماً لكل الاطراف حاكمين او محكومين حتى تكون اللعبة السياسية محكومة ومقيدة بقوانين معترف بها. وحتى يكون هذا الميثاق ملزماً للجميع يجب أن تتوفر فيه هذه الشروط «أولاً: أن يكون شاملاً «سياسياً، اجتماعياً، دينياً، بيئياً، ثقافياً، الخ» ثانياً: ان يكون مفصلاً «بحيث يكون تفسير النصوص والبنود واضحاً ومتفقاً عليها حتى لا تكون عرضة للتفسيرات الذاتية» ثالثاً: يجب ان يشارك في وضعه ذوو الاختصاص من العلماء واصحاب الحقوق انفسهم «حتى لا ينتقص حق من الحقوق». رابعاً: ان يكون محروساً من محكمة دستورية مستقلة «والاستقلال شرط اساسي لضمان العدالة»، خامساً: يجب أن يكون مراقباً بيقظة شعبية، حتى لا يتم الاعتداء عليه من طرف من الاطراف. سادساً: يجب أن يكون منشوراً في كل وسائل الاعلام والتعليم حتى تتكون ثقافة عامة بحقوق الانسان، ويصبح اي فرد في المجتمع واعياً بحقوقه وقادراً على الدفاع عنها بالطرق المشروعة والقانونية.
والمعسكران المتصارعان الآن حول الدستور «الاسلامي والعلماني» هما اكثر حاجة من غيرهما لهذا الميثاق، ذلك ان المتطرفين من الجانبين الذين يسعون لتحويل الدستور لمصلحة طرف دون الآخر، هما الخطر الحقيقي على المعسكرين وعلى الحياة السياسية برمتها. ولحماية وجود وحقوق كل معسكر في العمل السياسي لا بد من القوى الراشدة في المعسكرين الاسراع باصدار مثل هذا الميثاق لضمان السلام بينهما وحفظ حقوق الطرفين.
اذن المرحلة القادمة في حاجة الى راشدين لقيادتها، ذلك أن تحقيق العدالة وحفظ الحقوق للجميع في حاجة الى تجرد وعزيمة قوية لا تتوفران الا للمؤمنين بهذه القيم والملتزمين بها فعلاً وليس قولاً. ونقترح أن تتبنى جهة علمية سواء أكانت مركزاً بحثياً او جامعة ادارة حوار راشد بين العلمانيين والاسلاميين يقوم على أساس توضيح الحقائق العلمية والمعرفية والتجارب التاريخية التي تؤكد أنه ليس كل العلمانية «كفراً» كما يحاول بعض الاسلاميين استغلال جهل العامة بذلك، وكذلك ليس كل الاسلاميين متطرفين وإقصائيين كما يعتقد بعض العلمانيين. وبالتالي يمكن ايجاد قواسم كثيرة مشتركة بين العلمانية الراشدة وبين الاسلاميين الراشدين، على الأسس والمبادئ الثابتة كالحق والعدالة التي يجب أن تحكم العلاقات الانسانية في كل زمان ومكان.