زرياب الصديق العقلي يكتب : فِخاخ التمرّد وهفوات المقاومة
وإذ ظن كثيرون أن موافقة رئيس مجلس السيادة قائد القوات المسلحة على اللقاء ستحرج الطرف الآخر أو تحقق اليقين في مسألة حياة حميدتي من موته؛ كانت مجرد الموافقة قد حققت هدف التمرد وهو إظهار قبول الدولة السودانية بالتعامل مباشرة مع قيادته بعدما كانت تتحفظ على مجرد اتصالات الوسطاء مع أطرافه.
فِخاخ التمرّد وهفوات المقاومة
نظرة على التدبير الحربي لدى القوات المسلحة والدعم السريع
قُبيل اللقاء المؤجّل بين البرهان – حميدتي سألني سائل: هل سيلتقيان حقّاً؟ قلت: أرجو ألّا يلتقيا وأرجو أن يكون البرهان هو المبادر بالاعتذار؛ فما هذا اللقاء إلا فخ من الفخاخ التي ظلّت حركة التمرد تنصبها للقوات المسلحة والدولة السودانية منذ بداية هذه الحرب.
لم يكن بالطبع عندي تصوّر للفخ ولا يستطيع مراقب ثقب أغوار هذا الصراع في ظل الغرف الإعلامية الضخمة المسخرة له تشويشًا على الرأي العام، لكن القرائن والوقائع منذ بداية الحرب تقول بوضوح إن العقل التدبيري لدى الطرفين يميل لصالح التمرّد؛ لما له من ارتباطات خارجية تحرر له الخطط العسكرية والسياسية والإعلامية بمستوى عالٍ كما يبدو؛ وبالتالي ينبغي النظر إلى أي خطوة يوافق عليها الدعم السريع بعين الريبة.
مقابل الإمكانات التخطيطية والتنفيذية المسخرة للدعم السريع، هناك عقل تدبيري محدود العدد والنوع والوسائل لدى قيادة القوات المسلحة رغم أنها تتكئ على سند شعبي ويتوفر لها مخزون ضخم من الكفاءات التخطيطية والتنفيذية إن أرادت إشراكها.
وبطبيعة الحال، ذلك التباين بين مقدرات التدبير لدى الطرفين، بسبب تقصير قيادة المسلحة في استصحاب كل إمكانات الدولة والشعب لأجل تشكيل عقل كبير وآلة إعلامية ضخمة؛ ذلك التباين هو ما يجعل الدعم السريع ينسج المصائد ويوقع البرهان وفريقه فيها كل مرة دون عبرة واعتبار. دعنا نأخذ مصيدة التفاوض في منبري جدة وإيقاد مثالًا.
حتى اليوم، استخدم الدعم السريع التفاوض لتحقيق ثلاثة أهداف تسير في مخطط واحد من ضلعين: السيطرة على الأرض وشرعنة الدعم السريع دوليّا. كيف ذلك؟
في المرحلة الأولى، استُغلت الهدنة في إخراج قائد المليشيا من الخرطوم وتمكين جنود التمرد من اتخاذ منازل المواطنين ملاجئ. وفي المرحلة الثانية، اتُخذت جولات منبر جدة لمغافلة القوات المسلحة والتوسع في السيطرة على الولايات، بعد إصدار التزام وقف عدائيات لغرض التفاوض. وفي المرحلة الثالثة استُغل منبر “إيقاد” لإضفاء صيغة شرعية على حميدتي في الأوساط الدولية؛ إذ استطاعت القوى الواقفة خلف الدعم السريع انتزاع موافقة البرهان على لقاء حميدتي (الفخ التالي) وتضمين بيان القمة فقرة عن محادثة هاتفية بين أطراف المنبر وقائد الدعم السريع (الفخ التمهيدي).
وإذ ظن كثيرون أن موافقة رئيس مجلس السيادة قائد القوات المسلحة على اللقاء ستحرج الطرف الآخر أو تحقق اليقين في مسألة حياة حميدتي من موته؛ كانت مجرد الموافقة قد حققت هدف التمرد وهو إظهار قبول الدولة السودانية بالتعامل مباشرة مع قيادته بعدما كانت تتحفظ على مجرد اتصالات الوسطاء مع أطرافه.
ولذلك؛ فور هذه الموافقة اعتذرت قيادة الدعم السريع عن اللقاء لأن الهدف المرجو تحقق وهو الاعتراف بتكافؤ القيادتين. وبالمقابل، بعد الاعتذار مباشرة ظهرت صور لقاءات تجمع حمديتي مع قيادتي أوغندا وإثيوبيا في دلالة على الصفة الرسمية التي اكتسبها حميدتي وباتت تخوّل له ولمجموعته التحرّك علنًا، حسبما يريد العقل الذي يدبّر أمر الدعم السريع.
*وبالطبع دفوعات أوغندا وإثيوبيا وكل الجهات التي ستجتمع بالتمرد علنًا في الأيام اللاحقة ستكون جاهزة حينما تحتج الخارجية السودانية؛ إذ سيقولون: رئيسكم وافق فوافقنا نحن. وسيظل اللقاء المؤجل بين الطرفين يرتحل من يناير إلى فبراير إلى أن يختفي ذكره. وسيظل التفاوض أمرًا منسيًّا لا يُستعاد ذكره إلا عند تدبير مكيدة جديدة.
إذن، الذي لا شك فيه أن الدعم السريع ومن يقفون وراءه ما زالوا ينصبون الفخاخ للدولة السودانية ممثلة في قيادتها العسكرية وما بأيديها من أذرع مدنية وعسكرية، وما زالت قيادة الدولة السودانية تقع في الفخاخ واحدًا تلو الآخر، ولن ينصلح الحال ما لم يدرك البرهان أنه يخوض معركة تحتاج عشرات الخبراء حوله كي يصارعوا العقل المتمرد وينتقلوا بالمقاومة السودانية من مرحلة ردود الأفعال إلى المبادرة وإرباك حسابات الآخر. ولن يتحقق ذلك للبرهان ومجموعته ما لم يتركوا الخوف ويجمعوا حولهم كافة العقول الأمنية والعسكرية والدبلوماسية دون التفات إلى دعاية التمرّد القائمة على وصمه بالتعاون مع الفلول.