د السر احمد سليمان يكتب : *من يؤجل أكل الحلوى عاجلا سيكون أكثر نجاحا آجلا*
د السر احمد سليمان يكتب :
*من يؤجل أكل الحلوى عاجلا سيكون أكثر نجاحا آجلا*
هناك العديد من التجارب الذكية التي أجراها بعض علماء النفس لدراسة جوانب السلوك الإنساني، وذلك لأنّ سلوك الإنسان وأبعاده النفسية معقدة ومتداخلة، وقد أجرى عالم النفس والتر ميشيل ومجموعة من الباحثين تجربة سلوكية تنبؤية لطيفة، فقد اختاروا عينة مكونة من 500 طفل، ووضعوا أمام كل طفل قطعة من حلوى المارشملو اللذيذة، وعرضوا عليهم خيارين: إمّا أن يأكل أي منهم القطعة التي أمامه، أو ينتظر بعض الوقت ويعطوه بدل القطعة الواحدة قطعتين من الحلوى. وذهبوا منهم وتركوهم لبعض الوقت مع مراقبتهم عبر بعض الكاميرات غير المرئية.
وقد لاحظوا أنّ بعض الأطفال أخذوا الحلوى التي أمامهم ولم ينتظروا، وبعضهم انتظر حتى عاد إليهم الباحثون مرة أخرى، وأعطوا كل واحد من المنتظرين قطعتين بدل القطعة الوحدة كما وعدوهم.
وقام الفريق البحثي بعد ذلك بمتابعة هذه العينة من خلال دراسة طولية شاملة استمرت بضع سنوات، وقد وجدوا أنّ الأطفال الذين أجلوا أكل القطعة الواحدة من أجل نيل قطعتين كانوا الأكثر نجاحا في جوانبهم المختلفة فيما بعد.
واستنتج الباحثون بناء على تلك النتائج أنّ المقدرة على التحكم في الذات وضبط دافعية (شهوة) الإشباع المؤقت من أجل نيل فرصة أفضل هي إحدى المؤشرات على وجود مستوى مرتفع من التنظيم الذاتي للشخصية.
وتوصلوا إلى أنّ من يتمتع بمستوى مرتفع من خاصية التنظيم الذاتي يستطيع إدارة الدوافع بفعالية، ويكون هادفا في نشاطه وحياته، وسيحقق نجاحات كثيرة. وهذا يذكرنا بما قاله المتنبي في شعره:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
وخاصية التنظيم الذاتي من الخصائص المهمة في الشخصية، ويمكن تعلمها واكتسابها من خلال التنشئة والتلمذة (كما يقول أهل السلوك من العارفين في التراث الإسلامي)، وكذلك من خلال التدريب على البحث عن الأفضل وتجاوز المتطلبات الآنية التي تقعد الفرد عن الطموحات العالية، كما يمكن تنميتها من خلال تعزيز دافعية الإنجاز، وتنمية التفكير الناقد لتقويم الأمور واختيار الأفضل، وتحمل ما يلاقيه الفرد من أجل الحصول على المستويات العالية من الأهداف.
وفي القرآن الكريم يوجهنا إلى أنّ الناس لديهم دوافع وشهوات تجاه أشياء كثيرة، وفي نفس الوقت لديهم إمكانية ضبط وإدارة تلك الشهوات وتأجيل إشباعها، وخير من يعين على ذلك هو الإيمان بالحياة الآخرة، كما قال الله عزّ وجلّ:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد (15)}[سورة آل عمران].
ومن جانب آخر يوجهنا القرآن الكريم لتمييز الوجهات، واختيار الأهداف الأفضل؛ لأنّ لكل منا وجهة يسعى إليها؛ فالناس يسعون وينشطون لتحقيق الأهداف الخاصة بهم، ولكن القرآن يوجهنا لاختيار أفضل الوجهات وأسمى الأهداف والغايات والمسابقة في الوصول إليها، قال الله عزّ وجلّ:
﴿وَلِكُلࣲّ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّیهَاۖ فَٱسۡتَبِقُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ ٰتِۚ أَیۡنَ مَا تَكُونُوا۟ یَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِیعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾ [البقرة ١٤٨].
د. السر أحمد سليمان
أستاذ علم النفس بجامعة حائل
المملكة العربية السعودية