منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

✒️ صهيب حامد *آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟(١٩-٣٠)*

0

✒️ صهيب حامد

*آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟(١٩-٣٠)*

صهيب حامد

حسناً.. وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فلقد إزدهرت التشكيلة الخطابية المهدوية لقدرتها على تحريك فضاء الفاعلية في بنية الوعي التناسلي والتي تشكِّل قبائل البقارة في السودان لحمتها وسداها. فالمقاربة التحليلية للإطار الثقافي الإجتماعي للبقارة تكشف عدم قدرة هذا الإطار في إيجاد قابلة للتعامل والإنسجام مع بنيتي العقل البرجوازي اللتين سادتا شمال وجنوب الحزام الرعوي الذي سيطر عليه البقَّارة أبتداءاً من القرن الثامن عشر (حقبة دخول البقارة دارفور حسب أُوفاهي) وإلى إندلاع المهدية في ثمانينيات القرن التاسع عشر!!. فالملاحظة المهمة التي يقدمها أوفاهي في(State & Society in Darfur) هي أنه لم تحتوي الطبقة السياسية (للكيرا) أي ممثلين للبقارة إلى سقوطها!!. بعكس الأبّالة وهم عرب الشمال (دار تكناوي) من الزيادية والمحاميد والعريقات والماهرية الذين إستدمجوا في بعض الحقب بنية وعي برجوازي عبر إشتراكهم في تجارة المسافات الطويلة (Long trade distance)
إنطلاقاً من كوبي (Kobbei) إلى أسيوط كمالكين لإبل (الشيل) وهو التسويغ الإقتصادي لإزدهار تربية الإبل (Camel husbandry) في شمال دارفور إلى جانب الأسباب البيئية. فلقد عاشت مجموعات البقارة جنوب سلطنة كيرا (الرزيقات والمعاليا والهبانية والفلاتة تلس وبني هلبة والتعايشة) سلسلة من الحروب المتصلة مع سلاطين (كيرا) خصوصا وأن طريق غزوات الرقيق (المصدر الأساسي لميزان مدفوعات التجارة الخارجية للسلطنة) يمر عبر أرض هذه المجموعات والتي سوف يعتمد منهجنا في تصنيفها عبر هذه السلسلة على الأساس المهني وليس العرقي. فلقد إنبنت العلاقة بين الطرفين دوما (الكيرا والبقَّارة) على أساس القوة ، فلقد إعتمد (الكيرا) دوماً في قوتهم القتالية على سلاح الفرسان (الرجال المدججين الواقفين على صهوات خيولهم) وذلك لهشاشة المزارعين المستقرين في دارفور أمام هذه القوة ، وهو ما كان ناجعاً كذلك في دحر (الكيرا) للبقَّارة لزمن طويل. ولكن مع مرور الوقت وإنتشار السلاح الناري في بحر الغزال بعد إزدهار تجارة الرقيق والعاج وريش النعام هناك حدث تغيُّر مهم في موازين القوة مكّن البقارة من تمثيل بعض التهديد لطرق صيد الرقيق جنوبا ، فلقد إستطاع البقارة هزيمة جيش السلطان محمد الحسين في ١٨٤٦م وسحقه عن بكرة أبيه بقيادة الوزير آدم بوش الذي كان على رأس قوة بها ١٢٠٠٠ فارس!!.كذلك تكرر نفس الأمر في ١٨٥٦م إذ إستطاع البقَّارة كذلك سحق قوة أخرى بقيادة للكيرا بقيادة مقدوم (دار أمنقاوي) عبد الرازق مما أدّى لمقتله. لقد طوّر الرزيقات بالذات قوة في غاية الخطورة إمتلكت قوة المناورة وسرعة الحركة بفضل مجموعات المحاربين المسترقّين بواسطة الرزيقات ممن أُطلق عليهم (المنضلة) وكان أشهرهم حمدان ابو عنجة ، حيث سوف تكتشف المهدية فيما بعد نجاعة هذه المجموعة كما سوف يرد تباعاً. لقد كان التكتيك التقليدي للرزيقات في حربهم مع جيوش سلاطين (كيرا) هو ترك هذه الأخيرة لتتوغل جنوباً إلى مدى تمارس فيه مجموعات الرزيقات الكمائن والمناوشات إلى أن تلين ومن ثم يتم الإنقضاض والقضاء عليها وهو عين ما حدث مع الوزير آدم بوش الميدوبي والمقدوم عبد الرازق!!.

ذلك فيما يتعلق بعلاقة البقارة مع سلطنة (كيرا) ، ولكن كذلك لم يندمج البقارة مع بنية العقل البرجوازي لتجارة الرقيق التي أسستها السلطات التركية ببحر الغزال أنذاك. فلقد إستطاع الزبير باشا ود رحمة فرض نفوذ كبير أبتداءاً من ١٨٥٧م ببحر الغزال (بعد حادثة التمرد على أبو عموري) ليس على سوق تجارة الرقيق فحسب بل على سلطة الخديوي نفسه. لقد إستطاع الزبير باشا إستقطاب كل الإطار الإقتصادي والإجتماعي لتجارة الرقيق والسلع الأخرى (العاج وريش النعام) ببحر الغزال حوله مكوِّناً كياناً ذا شوكة في مواجهة حكمداري الخرطوم الأتراك حيث لم يجد الحكمدار في نهاية الأمر إزاء ذلك سوى الإنصياع لتوجيه الخديوي بتنصيبه في العام ١٨٧٣م مديراً لمديرية بحر الغزال في واحدة من أكثر سياسات الإحتواء دهاءاً ، فهو (أي الزبير باشا) قد إستطاع قبلها هزيمة تجريدة بقيادة محمد البلالي أرسلتها السلطات التركية من الخرطوم في العام ١٨٦٩م فهُزمت شر هزيمة على يد جيش الزبير باشا المعروف ب(البازنقر). وفي ثنايا ذلك عقد الزبير باشا إتفاقه الشهير مع الرزيقات لمرور قوافل الرقيق من بحر الغزال للشمال عبر أراضيهم بديلا لطريق مشروع الرق عبر النيل الأبيض الذي أغلقته الحكومة بعد تحريم تجارة الرقيق نتيجة الضغوط التي مارستها الدول الغربية على الخديوي إسماعيل. وبعد أن أصبح الزبير باشا مديراً لمديرية بحر الغزال قام الرزيقات بقفل هذا الطريق والهجوم على القوافل المارة به بتحريض ظاهر من السلطان إبراهيم قرض حيث إلتقت المصالح المشتركة لكِلا الطرفين (كيرا والرزيقات) إذ تضررت حملات صيد الرقيق (للكيرا) نتيجة نشاط الكبّانيات المدعومة من السلطات التركية ببحر الغزال وعلى رأسها الزبير باشا. شنّ الزبير باشا هجوماً إنقضى بهزيمة الرزيقات وهروب قادة التمرد (منزول وعليان) إلى الفاشر وهو الأمر الذي منحه الفرصة (أي الزبير باشا) للهجوم على سلطنة (كيرا) وهزيمة السلطان إبراهيم قرض في منواشي في ١٨٧٤م ومنه ضم دارفور للحكم التركي في السودان. إذن لم يجد البقارة قابلة تمكنهم من خلق إطار توافقي يضمن مصالحهم المشتركة مع (الجلابة) ببحر الغزال وهكذا وجد البقَّارة بعد هذه الأحداث أنفسهم تحت رحمة القوة الباطشة لبنية العقل البرجوازي الكوزموبوليتاني الذي يمثله الحكم التركي في السودان أبتداءاً من ١٨٧٤م وإلى بزوغ فجر الثورة المهدية في ١٨٨١م.

إذن وعندما صدح المهدي بدعوته لم يجد فضاءاً أكثر رحابة لقبولها إلاّ البقَّارة ، فكما أسلفنا فلقد وجدت التشكيلة الخطابية المهدوية قابلتها داخل الإطار الثقافي الإجتماعي لهذا الكيان لطبيعة تكوينه في إطار بنية عقل تناسلي تتوافق تركيبتها مع عناصر الخطاب المهدوي. إذن إي محاولة لمخاطبة غرب السودان ككتلة صماء يعبِّر عنها البقَّارة من قبل مفكري قوى المركز العروبي إما تنم عن جهل مطبق أو عن مكر يفترض الغباء في السودانيين!!!. إن هذا الخطأ الإستراتيجي هو خطأ منظومي بإمتياز إرتكبته قوى المركز العروبي ذات الطابع البرجوازي ولم تزل تصر عليه إلى يوم الناس هذا ، وهو ما أدّى إلى تشظي بلادنا طوال أكثر من ١٤٠ عام حسوماً (١٨٨٥م-٢٠٢٥م) فهل حان وقت إستعدال ذلك بدلا من الإستمرار في وضع العربة أمام الحصان!!؟. فنحن في السودان في أمسّ الحوجة لثورة(كوبرنيكية).. فكوبرنيكوس حين إكتشف أن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون تغير عقل الإنسان وحينها لم يتغير الإنسان فحسب بل وفق ذلك تغير العالم كله وإلى الأبد.!!. إذن فهل حين نعيد قراءة تاريخنا على وجهه الصحيح سوف يتغير تفكيرنا؟.. قطعاً ذلك هو المأمول بالف ولام العهد ، وجرَّاء ذلك سوف تتغير بلادنا صاعدة إلى مدارج التاريخ مودِّعة عهود التيه والتشرزم وإلى الأبد..نواصل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.