بابكر إسماعيل يكتب : *جذلى .. القلوب جذلى*
بابكر إسماعيل يكتب :
*جذلى .. القلوب جذلى*
جذلي القلوب فرحي .. وإطارات السيارة تنهب ذلكم الطريق الفسيح من جدة إلي مكة المكرمة .. وأشد ما يأسرني فيه تلك الجبال الصغيرة التي يشقها الطريق ..
أحس بأن السكينة تغمرها فتبدو خاشعة مخبتة وساكنة فيشدني ذلك الوقار والسكون .. كأنها تخاطبني بصمت وترحب بعودتي إلي تلك المجالي الحبيبة ..
فأناجيها وأساررها بنار جوي البعد عنها وهي تحرس حرم البيت العتيق .. وأرنو إلي أكثرها خشوعاً وإخباتاً مدندناً أناجيه “يا حبيبي ظمئت روحي للتلاقي .. وهفي قلبي إلي الماضي وناداني اشتياقي”
مكة تلك المدينة المقدّسة تغيّرت كثيراً وتبدّلت وتمدنت وكنا قبل نيّف وعشرين عاماً نجوب حواريها وأزقتها الملتوية حول الحرم وبها ألق التاريخ وعطر الماضي .. اختفت تلك المتاجر الصغيرة ذات العرائش يغطيها فرش صغير قبل الصلوات .. وبها التبر والوِرْقُ والحَلْيُ والحُلل .. لا تحدّث نفس سارق بأن تمتد يده إليها..
“فمن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم” ..
ومكة هي مجمع أودية تهبط من جبال كثيرة لا تحصي .. وتلتقي كلها في ذلك الوادي الإبراهيمي .. الذي لا ماء فيه ولا زرع ..
وبالحرم وقربه جبال صغيرة عرفها الناس وألفها وخلد القرءان اثتين منها الصفا والمروة – ويسعي الحاجّ بينهما مبتدءاً بالصفا .. ثم ما يمضي غير قليل حتي يرمِلَ الساعون مسرعين بين الميلين الأخضرين .. ثم يتواصل السعي بالخطي الوئيدة ويصعدون علي المروة وقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعزّ جنده .. بذلك السعيُ.
وكأنما هي رحلة الحياة مخضرة نضرة عجلي في مبتدئها ثم تبطيء وتصفو حتي تستقر عند وعد الله الذي لا يرد..
فالصفا صفو الحياة في مبتدئها والمروة مستقرها واكتمال مروءتها وانتهاؤها بمرها وريها وظمئها ثم يكون التخلي عن الذنوب تحليةً لحياة متجددة أو خلوداً سرمدياً ..
وكما كان جبل الصفا هو مبتدأ السعي ورمز الميلاد وبدء الحياة ..
فإن فيه ابتدأت دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم الجهرية ..
صعد النبيُّ علي أعلي جبل الصفا وهو ينادي “واصبحاه” .. حتي اجتمعت قريش عن بكرة أبيها فسألهم “أرأيتَكم إن أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي بسفح هذا الجبل تريد أن تُغيرَ عليكم أكنتم مصدقيَّ؟”
قالوا ما جربنا عليك كذباً.
قال إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد” ..
فتبّت يدا أبي لهب عندما سبَّ ابن أخيه في ذلك اليوم الذي خَلُدَ في التاريخ ..
فقد صدع ابن عبد المطلب
بما أُمر به بلا كَذِب ..
وأشرقت الأرض بنور ربها ..
وعادت صلصلة الوحي تطرب آذان العالمين ..
وأذان من الله ورسوله ..
فهنيئاً لجبل الصفا شهوده ذلك المشهد ..
وهنيئاً له ذكره في الذكر المجيد
أما ذلكم الجبل غير بعيد من أخويه الصفا والمروة وهو جبل أبو قبيس وقد أزيل من موقعه في توسعة الملك فهد
ويقال إنَّ جبل أبي قبيس هو أول جبل علي الأرض وأن الحجر الأسود كان محفوظاً بداخله .. وأن أصل الصفا مرتبط به وبقي الصفا تشرئب زوائد منه بارزة كالأيدي تمتد نحو البيت العتيق .. شاكراً لأنعمه .. ان اجتباه ربّه وجعله في حرم بيته المأمون ..
أما جبل المروة قد طُمر وسُوِّيَ سطحُه وانبسط .. يرتقيه الساعون تهوي إليه أفئدتهم وأجسادهم عقب كل شوط ..
وهنالك شرق البيت العتيق في جبل النور هنالك في أعلاه غار صغير شهد بداية الوحي “اقرأ …” ما أنا بقاريء وذلك الملك الجسيم ذو الأجنحة المتراكبة يسد الأفق … فترتعد فرائص المزّمّل
ولقد رآه نزلة أخري عند سدرة المنتهي حين بدا كالخرقة البالية خشية من الملك ذي العزّة والجبروت .. لما دنا فتدلّي .. أهنا يترك الخليل خليله يا جبريل؟
“لو تقدمت خطوة يا محمد لاحترقت” ..
“وما منّا إلا له مقام معلوم” ..
وما زال هذا الغار قبلة للزوار
أما الغار الآخر في جبل ثور وقد أخفي في في جوفه أعظم رجلين علي الأرض .. خائِفَيْنِ يترقبان لجان المقاومة القريشية فباضت الحمامة علي فم الغار ونسجتِ العنكبوت خيوطها فحماهما ربهما بأوهن البيوت .. فأسسا أعظم دولة أُخرجت للنّاس وعادت قريش خائبة خاسرة .. والله متم نوره ولو كره الكافرون
خرجت من البيت العتيق أبحث عن وجبة سريعة تسدُّ الرمق فوجدت جبل عمر وقد سوِّي بالأرض وقامت علي أرضه مطاعم للوجبات السريعة وفنادق عالية راقية لا يدخلنّها عليهم مسكين .. رأيته من قبل كان هنا شامخاً شاهقاً فصار أثراً بعد عين .. فيا ويحهم من عمر..
والسيارة تعود من أم القري إلي مدينة جدتنا … وهي تعدو حاسرة الرأس حزينة ولها أنين ..
ونرنو للجبال تلك الخاشعة المخبتة الواجفة ..
تودعنا في صمت حانٍ ..
نظرت إليه ثانية .. نظرة وداع ولسان حالي يقول اللهم اجعل لي بها قراراً وارزقني منها حلالاً..