منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

المجاهد عباس خالد يكتب : *الي امي في عليائها…. أريد أن أمضي معفرا ممزق الأوصال*

0

المجاهد عباس خالد يكتب :

 

*الي امي في عليائها…. أريد أن أمضي معفرا ممزق الأوصال*

قرأت ذات مرة أن : “الفقد لا يكتفي بأن يأخذ الأحبة، بل يسحب معه الضوء من الأشياء، فيترك العالم رمادياً، بلا لونٍ ولا دفء”، وهذه للصراحة التامة حالتي، أنا عباس خالد، فاليوم بحمد الله أتممت العشرين، بدلا من الفرح وجدت نفسي محاطا بذكريات أحبابي الراحلين، فنويت اليوم أن أحتفل بعيد ميلادي، -إن صح أن أسميه عيدا- بهم! لذا وددت أن أحدثكم اليوم عنهم وأشارككم بما كُتم في صدري، وأحكي لكم كيف كبرت قبل الأوان، وكيف عجّلت بي الحروب إلى شيخوخةٍ مبكرةٍ من الحزن.
في السابع عشر من نوفمبر عام 2024، رحلت أمي، بعد معاناة مع الحرب والحياة، ومايحزنني ويؤلمني أنني لم أكن هناك عندما أغمضت عينيها للمره الأخيرة، كنت في “المدرعات”، وأحمد الله أن رزقني رفقة الرجال، وبالرغم من تتقاطع أصوات الرصاص مع صدى الذكريات، كانو لي سندا وعونا.
تأخرت أربعة أيام عن العزاء، وعدتُ إلى أم درمان ليلاً، لكنني لم أعد حقاً، فقلبي قد تركته مع رفاقي في أرض الدروع، ومع ذلك كانت أولى خطواتي نحو قبرها، كأن قلبي دفن معها قبل أن أصل إليها.
آخر مكالمةٍ بيننا أحسست و كأنها أرادت أن تهبني وداعٌ ناعمٌ فهي لا تريد أن توجعني، فهي من دعمتني وحفزتني للإستنفار دفاعا عن المال والعرض، حدثتني بصوتها المبحوحٌ بالتعب، فيه رجفةُ الراحلين الذين يعرفون أن الرحلة اقتربت، لم تقل “وداعاً”، لكنها قالتها في كل شئ صدر منها خلال تلك المكالمة، ومنذ رحيلها، صار كل شيء في الدنيا باهتاً، السماء بلا زرقة، والوجوه بلا ملامح، والأيام تمرّ عليّ كأنها لا تخصني، أقول أحياناً: “الدنيا بقت مسيخة كده، ما عارفين عايشينها لي شنو، وسرعان ما أعود للإستغفار .”
كانت أمي الحنان كلّه، الصدر الذي يسع وجعي، والملجأ الذي أعود إليه حين تخذلني الحياة، كانت مكالمتها القصيرة تُعيد لي طمأنينة الكون، ثم رحلت، فخاوى كل شيء بعدها، لم أقضِ معها سوى سبع سنواتٍ من عشرين، لكنها كانت كلّ الحياة، عمري كله أو يزيد…
في طفولتي، افترقنا مرتين؛ مرة وأنا رضيع، حين احترق جسدها وبقيت تسعة أشهر في المستشفى، ومرةً حين افترق الوالدان بعد العودة إلى السودان.
ومنذ ذلك الحين، بقيتُ أعيش على فتات الذكريات: ابتسامتها وهي تمرر يدها على شعري، رائحة عطرها حين تمرّ بقربي، وصوتها الصباحي وهي تناديني إلى المدرسة، من بعدها، لا أحد سألني من قلبه: “أكلت؟” ولا أحد انتبه إن كنت بخير، حتى زواج أبي من أمي الثانية، لم يملأ الفراغ، لأن غاليتي لا يُعوّضها أحد، هي الوطن الأول، والدرع الأخير.
في ليالي الخدمه الطويله، في 02 أو في سهول كردفان، يجن على الليل ويسكن كل شئ وينام كل صوت، فأبقى وحدي مرابطا أحدّق في السماء، فأذكرها، وتدمع عيناي غصبا عني، وأهمس باسمها كأنني أدعو الله أن يوصل سلامي إليها، وكلما طال الليل، شعرت أن المسافة بيني وبين الأرض تكبر، وأنني أقترب من عالمٍ آخر، عالمٍ لا يعرف الفقد، عالم إشتقت إليه، لكنني لن أعبر إليه حتى أنال الشهاده، لأهديها لي أمي، فأي هديه أكبر من أن يكون لها إبن شهيد تفخر به أمام الله.
أحياناً أهمس لنفسي وأتسائل عن نيتي، وعن جهادي، ف بالرغم من شوقي لأمي هناك، مع محمد نصر الدين، ومهند، ومزمل، لكنني أجاهد بأسم الله من أجل وطن لا يفقد فيه أحد، أحد آخر عزيز عليه، لكن أحلامي لا ترحمني، ولا يد لي مع من أراهم في أحلامي، وأسمع ضحكاتهم التي تشد من أزري اثناء القتال، وحين يُذكر اسم مهند، يضيق صدري وأقول في سرّي: “نلتها يا قائد، ونحنا في الطريق.”
أنا لا أخاف الموت، لأن الموت صار وجهاً مألوفاً، صديقاً يذكّرني باللقاء، فالفقد الذي عانيت منه علّمني أن الأجساد تُدفن، لكن الأرواح أبدا تظلّ تنتظر من تحبّ، أنا لا أريد حياةً تُنسيني أمي، بل موتاً يعيدني إليها وهذه هي أمنيتي في عيد ميلادي، لكنه لا أريده موتا عاديا، أريد أن ابذل روحي لله، أريد أن أمضي معفرا ممزق الأوصال، أقول هذا وأنا أعلم أن الشهادة ليست نهاية، بل تذكرةُ عودة، عودةٌ إلى أمي، إلى أصحابي، إلى الله.
في كل ليلةٍ أرفع رأسي نحو الأفق، وأشعر أن الجنة تقترب مني أكثر، كأنها تعرف اسمي، وتتهيأ لاستقبالي، ربما لم أعد من الذين ينتظرون شيئا أو مستقبلا في الحياة، بل من الذين تنتظرهم الحياة لتودّعهم بسلام.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.