اندبندنت البريطانية : انهيار الجنيه السوداني يفاقم الأوضاع المعيشية في السودان
على رغم الوضع الإنساني المتردي الذي يعانيه السودانيون بفعل الحرب الدائرة بين الجيش و”قوات الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، شكل انخفاض الجنيه السوداني في مقابل العملات الأجنبية عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطنين، لا سيما بعد توقف الأعمال اليومية وعدم صرف رواتب العاملين بالقطاعين العام والخاص لأكثر من خمسة أشهر.
وشهدت أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية في الخرطوم والولايات ارتفاعاً كبيراً ومفاجئاً، مما أثار سخطاً وشكاوى لدى كثير من الناس الذين اعتبروا الزيادة غير مبررة ولا منطقية، في حين عزاها تجار إلى كلفة السوق وأسعار النقد الأجنبي في السودان.
تدهور وتدابير
تعرض الجنيه السوداني لتدهور حاد بانخفاض قيمته لأدنى مستوى في تاريخه أمام العملات الأجنبية في السوق الموازية، إذ وصل سعر الدولار الأميركي إلى 800 جنيه للشراء و750 جنيهاً للبيع في السوق السوداء، وفق ما أفاد به متعاملون في السوق الموازية.
في غضون ذلك أعلن بنك السودان المركزي حزمة تدابير لحصر وتلافي ومعالجة آثار الأزمة الناتجة من حال الحرب، من بينها اتخاذ الإجراءات المصرفية اللازمة لمعالجة الانخفاض في قيمة العملة الوطنية واستقرار سعر الصرف وذلك بخفض سقف التحويلات البنكية عبر بنك الخرطوم.
وتقرر أن يكون سقف التحويل الاعتيادي في اليوم ستة ملايين جنيه على ألا يتجاوز التحويل الشهر 100 مليون جنيه، كما أن الحد الأقصى للعملاء المميزين يبلغ 10 ملايين جنيه في اليوم الواحد كحد أقصى، على ألا تزيد التحويلات شهرياً على 200 مليون جنيه، فضلاً تمكن عدد من فروع المصارف من استعادة عملها بصورة طبيعية في المناطق الآمنة واستعادة التطبيقات المصرفية الإلكترونية الخاصة بثمانية بنوك، بعضها يعمل بصورة جزئية.
ويعد تطبيق “بنكك” التابع لبنك الخرطوم من أكثر التطبيقات المستخدمة في التحويلات المصرفية بالبلاد، كما يعتمد عليه السودانيون في بعض الدول مثل السعودية ومصر لإجراء التحويلات.
تفاقم الأوضاع
اتجهت الأسعار في أسواق ولايات البلاد المختلفة نحو الأعلى، وطاول التضخم البيض ومنتجات الألبان والأجبان والأرز والعدس والفول المصري وغيرها من السلع.
ويرى المواطن أحمد الأمين أن “التصاعد المستمر في الأسعار يجعل المعيشة في السودان أمراً لا يطاق وفوق طاقة الاحتمال، خصوصاً في ظل ظروف الحرب الحالية لأن غالبية المواطنين لا يملكون المال بسبب أوضاع النزوح وتوقف الأعمال، كما أن الموظفين في الدولة يعيشون على الكفاف، فمصير الرواتب بات مجهولاً في وقت تتصاعد فيه أسعار السلع يوماً بعد آخر”.
أضاف المواطن السوداني “انتابني القلق من فوضى الأسواق هذه الأيام، نحن نعاني يومياً لكي نوفر وجبتين للأطفال وكبار السن بأقل الكلف، إذ شكل انهيار الجنيه صدمة قاسية لكثيرين، أضف إلى ذلك استغلال وجشع بعض أصحاب المحال التجارية الذين رفعوا الأسعار بصورة تفوق الخيال الأمر الذي فاقم أوضاع الناس بدرجة لا توصف”، وتابع الأمين “لا أعتقد أن الحكومة لديها حلول بديلة ناجعة بدليل أنه وفي كل مرة يتراجع فيها الجنيه السوداني وبعد إجراء التدابير واستقرار سعر الصرف تظل أسعار السلع الاستهلاكية من دون رقابة أو ردع قانوني، وفي تقديري أن خطوة بنك السودان المركزي المتعلقة بمعالجة الانخفاض في قيمة العملة الوطنية بخفض سقف التحويلات البنكية لن تقود إلى حل الأزمة بشكل نهائي”.
ركود وكساد
وضربت الأسواق السودانية حال من الركود والكساد بسبب ارتفاع أسعار السلع تماشياً مع انخفاض الجنيه في مقابل العملات الأجنبية، واشتكى كثير من تجار الجملة والتجزئة من عدم قدرتهم على مجاراة الأسعار التي لا تستقر على حال، مما اضطر عديداً منهم إلى التوقف عن عمليات البيع لحين تحسن الوضع.
وقال التاجر عبداللطيف حسن إنهم يعيشون منذ أسبوعين وضعاً معقداً كل صباح جراء الارتفاع اليومي في أسعار السلع الاستهلاكية، فمثلاً نبيع السكر اليوم بسعر ونضطر إلى شرائه غداً بسعر أعلى، مما يؤثر في رأسمال المحل، ونتضرر كثيراً من عدم ثبات واستقرار السوق، وفي الوقت ذاته فإن المواطنيين يتعرضون لنا بالسب والسخرية”، واعتبر حسن أن “العمل في الأسواق خلال الفترة الحالية مجازفة كبيرة تقود إلى خسائر فادحة وربما دخول السجون حال استمرار الاشتباكات المسلحة والفشل في التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب في القريب العاجل”، وتابع التاجر “نعمل من أجل تأمين مصاريف المتاجر فقط خصوصاً بعد تراجع القوة الشرائية بشكل سريع مع ارتفاع البطالة وعدم صرف الرواتب نتيجة ظروف الحرب، فضلاً عن ارتفاع كلفة النقل أضعافاً مضاعفة بسبب أزمة الوقود”.
شلل اقتصادي
وأشار الخبير الاقتصادي محمد الناير إلى أن “انخفاض الجنيه السوداني في مقابل العملات الأجنبية الأخرى لديه أثر كبير للغاية في حياة الناس ومجمل الأوضاع الاقتصادية بصورة واضحة، وهناك أسباب عدة قادت إلى تدهور الجنيه من بينها حالات النهب والسلب التي تمت خلال الفترة الماضية سواء كانت من البنوك أو منازل المواطنين والحصول على كميات كبيرة من النقد وتحويلها إلى عملات أجنبية للهرب بها خارج البلاد”.
وتابع الخبير الاقتصادي “أضف إلى ذلك توقف مصفاة الجيلي نظراً إلى تأمينها قدراً كبيراً من استهلاك الوقود في السودان، مما اضطر الدولة إلى الاستيراد من الخارج، علاوة على ضعف إيرادات الحكومة بسبب الحرب، مما نتج منه زيادة عجز في الموازنة، وهو ما يتطلب حكمة في عملية الاستدانة من النظام المصرفي بألا تتجاوز المعدلات المتعارف عليها حتى لا تتزايد حدود تراجع قيمة العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة”.
أضاف الناير أن “الاقتصاد السوداني في الأصل كان يعاني مشكلات قبل الحرب وتفاقمت عقب اندلاع الصراع المسلح، وبالتالي ظهرت مؤشرات عدة من بينها انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر، أما بالنسبة إلى أزمة مرتبات العاملين في القطاعين العام والخاص، في تقديري أن هناك بطئاً كبيراً من الدولة ليس في شأن منح الموظفين لاستحقاقاتهم، ولكن في معالجة الأزمة الاقتصادية برمتها”.
وأوضح الخبير الاقتصادي “نحن في الشهر السادس للحرب ووزارة المالية لم تمنح العاملين في القطاع العام سوى راتب شهر واحد وهو أبريل (نيسان) الماضي، فيما سددت شهر مايو (أيار) لموظفي الوحدات المركزية، وفي المقابل تفاقم وضع العاملين في القطاع الخاص نظراً إلى توقف كثير من المؤسسات والمصانع والشركات، فضلاً عن إيقاف الموظفين سواء كان بصورة موقتة أم دائمة أو منح إجازة من دون مرتب، وهي مؤشرات لها انعكاسات سالبة خلال المرحلة المقبلة إلى جانب توقف عمل مئات في ولاية الخرطوم بسبب تصاعد القتال”.
بطء المعالجات
وحول الإجراءات التي يجب أن تتخذها الدولة لمعالجة الأزمة، نوه الخبير الاقتصادي إلى أن “هناك بطئاً كبيراً في أداء الجهاز التنفيذي ولم تكن التحديات بحجم الكارثة لأن الأولوية كانت لإجراء الاحتياطات اللازمة لمواجهة الآثار السالبة لقضية النهب الذي طاول العملات الأجنبية والمحلية في البنوك ومنازل المواطنين، خصوصاً أن نحو 90 في المئة من حجم الكتلة النقدية خارج إطار الجهاز المصرفي، وهو ما يؤكد وجود أموال في بيوت المواطنين من عملات محلية وأجنبية في العاصمة”.
ونبه الناير إلى أن الأموال في ولايات البلاد المختلفة موجودة، لكن كان ينبغي أن تصدر الدولة منشوراً يقضي بمنع تداول فئات 1000 و500 جنيه في النشاط التجاري، وتكون مقبولة في المصارف، “وهذه الخطوة كان من الممكن أن تسهم في إيداع هذه الفئات داخل البنوك مع تفعيل التطبيقات المصرفية والتحويلات الإلكترونية حتى يستطيع المواطن التعامل عن طريق البيع والشراء بسهولة، وهذه الخطوات كانت ستمكن البنوك من التعرف على مصادر الأموال بكل يسر، فضلاً عن معرفة المبالغ المنهوبة”.
ووصف الخبير الاقتصادي التدابير التي وضعها بنك السودان لمعالجة الانخفاض في قيمة العملة الوطنية بـ”المهمة والضرورية، لكنها أتت متأخرة، على رغم أن الأثر سيكون أكبر حال اتخاذ القرار في وقت مبكر”.