منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

الراصد فضل الله رابح يكتب : المقاومة الشعبية والتجني علي دولة العشائر..

0

الراصد
فضل الله رابح يكتب :

المقاومة الشعبية والتجني علي دولة العشائر..

الحراك والتفاعل المجتمعي والتطور الكبير الذي انتظم قبائل البلاد حاليا والموصوم بالمقاومة الشعبية ضد المليشيا المتمردة ليس بدعة وإنما واقع فرضته ظروف موضوعية وهو محصلة وتطور لعناصر مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، وإذا عدنا للوراء نجد أن السودان بطبيعته بلد عشائري أي (دولة قبائل) إذا تتبعنا تأريخه الممتد ، والسودان منذ فجر التاريخ شبت علي ثراه قبائل وقامت مشيخات وإمارات وقبائل وممالك وسلطنات وعلي الرغم من آراء عديدة مغايرة تعتبر أن النظام الأهلي صناعة استعمارية مع أنها حقيقة جزئية إلا أن نظام العشائر ومناصرة القبائل لم ينشأ من فراغ لكنه ظل موجودا قبل نشوء الدولة السودانية الحديثة وحتى قبل قيام السلطنة الزرقاء كانت هناك ممالك ومشيخات وزعامات قبلية تمارس نوعا من النشاط الإداري والسياسي والسيادي لكنه صار أوضح أيام مملكة سنار التي تأسس عام (١٥٠٤م) فهي كانت نتيجة تحالف بين قبائل الفونج في جنوب شرق النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس وقبائل العبدلاب بقيادة عبد الله جماع ، وكانت تعرف (بمملكة الفونج) و (الدولة السنارية) ثم جاءت المهدية في العام (١٨٨١م) وعلى الرغم من أنها كانت دولة قائمة علي حركة دينية لكن عمودها الفقري كان القبائل حيث بايع زعماء القبائل الإمام محمد أحمد المهدي وناصروه في ثورته ضد الحكم التركي للسودان وساهموا في نجاح الثورة إلى أن تم تحرير الخرطوم سنة (١٨٨٥م) ، ثم نشط النظام الأهلي في عهد التركية السابقة بل كانت الإدارات الأهلية من أهم العوامل التي أدت إلى طول أمد النظام الممتد منذ العام (١٨٢١م) وحتى عام (١٨٨٥م) الأتراك إستعانوا بالعشائر في حفظ الأمن وجمع الضرائب ، وبعد سقوط دولة المهدية اعتمد الحكم الثنائي الانجليزي المصري في حكم السودان نظام الإدارة الأهلية في البادية وبشكل خاص المناطق النائية عن المركز لانخفاض تكلفته وتقبله من المواطنين وتم تقنينها بقوانين ولوائح ومنشورات تحدد سلطاتها واسلوب ممارساتها التي سمحت بمنح زعماء القبائل بعض السلطات القضائية والأمنية والإدارية وقد وظف المستعمر النظام الأهلي لمصلحته ، فقد كان الحاكم العام يوفد مندوبه إلى الناظر أوالسلطان أوالشرتاي لإملاء توجيهاته والذين بدورهم يقومون بانزال التوجيهات إلى مستويات الإدارة التي تدنونهم درجة كالعمدة والشيخ ثم الخفير ، فكانت الجبايات والاتاوات المفروضة من الحاكم العام ، يتم جمعها وتحصيلها عبرهم .

حتى الاستقلال كانت للشعائر والقبائل دورا كبيرا فيه حيث شكلوا أغلبية في أول برلمان عام (١٩٥٣م) فهو البرلمان الذي أعلن من داخله الاستقلال علم (١٩٥٥م) حيث قدم مقترح الاستقلال الناظر عبد الرحمن دبكة ناظر قبيلة البنى هلبة والذي ثني المقترح الناظر مشاور جمعة سهلة ناظر قبيلة المجانين ثم جاءت الحكومات الوطنية بعد الاستقلال بعضها استفاد من العشائر وبعضها حاول تكسير وإلغاء النظام الأهلي مثل نظام الراحل جعفر نميري حتى جاء نظام الإنقاذ في العام (١٩٨٩م) وهي بدورها فتحت الباب واسعا للقبائل وزعماء العشائر وكانوا خيرا نصيرا للقوات المسلحة في كل معاركه وأعضاء حكومات وبرلمانات..

سقت جزء من هذا التاريخ لأقول إننا إذا تتبعنا اختلاف المدارس المنهجية في تاريخ حكم السودان نجد أن السودان بلد عشائري منذ تكوينه الأول وهذا مدخلي لتحليل الواقع الحالي وتطور ديناميكية حرب مليشيا الدعم السريع وثورة القبائل الحالية ضدها (المقاومة الشعبية لتحرير الوطن) وهي هبة شعبية ضد أفعال المليشيا التي باتت مهددا للأمن القومي ومعروف أن قبائل السودان خاضت حروبا وقائية كثيرة عبر تاريخها وهنا يجب أن نوضح معنى أن تكون ضد مليشيا الدعم السريع المجرمة بقيادة محمد حمدان دقلو هذا لا يعني أنك ضد مكون قبائل العطاوة ولا أنك ضد قبيلة الرزيقات العريقة فكثير من قبائل العطاوة كانت لها سهم كبير في الحركة الوطنية ولا يستطيع أحد أن يراود عليها وأن مشاركة بعض أفراد هذه القبائل بل أغلبية في الصراع الحالي وتزكية روح العداء لا يعني أن هذا توجه قبلي خاص ضد قبائل ومكونات سكانية أخرى ولا يمكن أن تصمم العشائر والقبائل التي استنفرت قواعدها لحماية مناطقها وأراضيها وتحرير الوطن وعصمه من فتنة المليشيا والمرتزقة أن تصمم خطابها ضد قبيلة بعينها ، وان لبس بعض أبناء الرزيقات كدمول (حميدتي) باسم مناصرة القبيلة أو تأسيس دولة العطاوة ..

وإنني إذ أتطرق في هذا السياق إلى المقاومة الشعبية الوطنية التي انتظمت طول البلاد وعرضها لا أنكر وجود مفكرين وسياسيين سودانيين عبر تاريخ وعقب السودان المختلفة كان لهم إسهامات فكرية وثقافية بالغة التأثير على تنظيم الحركة السياسية والاجتماعية لكننا في السودان إلى الآن لم نشهد مدارس فكرية وثقافية ذات تأثير عميق علي صيرورة تكوين الدولة السودانية الحديثة بذات نسقها العشائري ولم يتم استحداث نهضوي لمفهوم القبائل والعشائر وآليات المناصرة الشعبية للقوات المسلحة بحيث يكون المجتمع ظهيرا مساندا للجيش من دون انتماء سياسي أو فكري ، وحتى التيارات الفكرية الحديثة (الحركة الإسلامية) لم تستطع التأثير على آليات التطور الاجتماعي والقبلي بالشكل المثالي وان كانت هناك اجتهادات وإنتاجا فكريا في هذا السياق لكنه لم يكتمل حتى الآن ، وبعض الاجتهادات ما تزال حبيسة الورق والأدراج وبعضها يدور الحديث حوله داخل مجموعات نخبوية محدودة وإن إنتاج الحركة الإسلامية الفكري في هذا السياق كثيرا ما كان منفصلا عن المتلقين الذين كان يجب بدورهم أن يتحولوا إلى منتجين جدد لهذا الفكر المتطور ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغرب نجح في التعرف على هذا المكون العشائري المهم وعلي المنتوج الفكري والتراثي الذي صمم للاستفادة من القبائل في وحدة وبناء الدولة السودانية المعاصرة ، فكان الغرب أذكي منا كسودانيين فصمم استراتيجية تفكيك السودان على توظيف السلطات المهيمنة على المجتمع والتي لديها سلطة التأثير والتنكيل والمنع والاستبعاد من المجموعة الاجتماعية (القبيلة) وإدخالها في المعركة السياسية التي هي ضد مكون السودان ككل لكنها تتخذ ذرائع مثل الحقوق والمطالب السياسية مدخلا وخطابا واستفاد الغرب من انتشار الأمية وتنميط الأشكال الاجتماعية (جلابة وغرابة، مركز وهامش إلخ) واستخدام انساق أخرى من أنواع الجدل النقدي لترسيخ عقلية العداء مثل المفهوم المفخخ (دولة ٥٦) في زمن انتشرت فيه الثقافة السمعية ذات التأثير اللحظي بدلا عن البحثية ، فتشابكت كل هذه الأنساق والعلاقات والمصالح المحلية والدولية وشكلت مهددا للأمن القومي وهو الحذر الذي استشعرته القبائل التي تمتلك شهادة بحث السودان فانتفضت اليوم لتعيد التاريخ وإعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية من جديد ، ولكن نحن بحاجة إلى عقل فكري ونظام حكم واع يعيد قراءة وتحليل العلاقات الاجتماعية والثقافية ويخضع الصراع الحالي إلى تحليل ذاتي عميق للشخصية السودانية وطبيعة الصراع والخطاب المستخدم وحركة الأفكار السياسية المتقاطعة حوله وتحويل محن هذا الصراع إلى منح وطنية بلغة أهل الكمبيوتر نعيد فيها مدخلات ومخرجات الوطن وبناء علي ذلك نستطيع أن نقذي الوطن بمرتكزات مشروع وطني جامع للخروج بنتائج واضحة ، فالشعوب السودانية وليس الشعب السوداني لم تدخل الكثير من التطورات الوطنية وتفاعلاتها في عقولها والنتيجة أننا لم نعد قادرين على إخراج نتائج تخرجنا من الدائرة المفرغة التي ظل الوطن يدور حولها وهذا الذبول في الإنتاج في كل شيء ، وهو واقع مرتبط بشكل وثيق بالركود السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نعيشه وإنتاج مزيد من التطرف في المواقف ، أمل أن تكون هذه الحرب وهذه المقاومة والمناصرة للجيش مدخلا لعلاج كل خيباتنا الوطنية التاريخية ، وتأسيس دولة جديدة قائمة علي أسس جديدة ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.