للعطر افتضاح د. مزمل أبو القاسم يكتب : (المركزي) الهُمام.. تعظيم سلام
للعطر افتضاح
د. مزمل أبو القاسم يكتب :
(المركزي) الهُمام.. تعظيم سلام!
* خلال الشهور التي تلت الحرب تعرض بنك السودان المركزي إلى انتقادات عنيفة، واتهامات جائرة، وصلت حد تخوين المحافظ وكبار الموظفين، واتهامهم بموالاة المليشيا، ودمغهم بالتلكؤ في استبدال العملة بعد نهبها بواسطة أوغاد آل دقلو، وكان الاتهام ظالماً وغير مسنود بأي دليل مادي أو قرينة ظرفية سيما للمحافظ الحالي، الذي ظل يعمل في البنك المركزي منذ العام 1986، وتقلد رئاسة كل الإدارات المهمة في أحد أعرق مؤسسات الدولة السودانية.
* الثابت أن البنك المركزي أنجز عملاً مبهراً عندما تمكن من مزاولة أعماله في العاصمة البديلة عقب اندلاع الحرب بفترة وجيزة، كما نجح في استعادة كل أنظمته الإلكترونية، ومكّن البنوك العاملة في المناطق الآمنة من مواصلة أعمالها والوفاء بإلتزاماتها تجاه عملائها بلا إبطاء.
* غني عن القول أن استبدال العملة بطباعة أوراق بنكنوت جديدة عملية بالغة التعقيد، لا تتم بين يومٍ وليلة ولا في شهرٍ أو شهرين كما يتوهم البعض، إذ تستغرق في الأحوال العادية (وفي غير زمن الحرب) ما بين ثمانية إلى 14 شهراً، علاوةً على أنها تكلف مبالغ ضخمة بالعملات الأجنبية، لم تكن متوافرة للدولة، بعد أن سطت مليشيا آل دقلو على أموال البنوك وكل احتياطيات البنك المركزي نفسه من الذهب والعملات الأجنبية.
* خلال الأيام الماضية، وعقب نجاحه في طباعة العملة الجديدة وشروعه في عمليات الاستبدال؛ دفع البنك المركزي باتجاه تقييد التعامل بالبنكنوت (الكاش)، وألزم الراغبين في الاستبدال بإيداع أموالهم في حساباتهم المصرفية، وأمر البنوك التجارية بتسهيل فتح الحسابات لمن لا يمتلكونها، ووجهت خطواته بمعارضة كبيرة، سيما من محبي التعامل بالكاش ومن يرون أن البنوك التجارية ليست جاهزة لتوفير معينات السداد الإلكتروني لطالبيها.
* نذكر ابتداءً أن تطوير عملية الدفع الإلكتروني مرتبط بوزارة الاتصالات، التي ينسق معها بنك السودان للوصول إلى مرحلة السداد الكامل عن طريق التلفونات العادية (غير الذكية)، ومن دون حاجة لشبكة انترنت وسيحدث ذلك قريباً بإذن الله.
* أما بخصوص ملف تقليص الاعتماد على الكاش والدفع باتجاه السداد بالخدمات الإلكترونية فإننا نسأل: هل كان مطلوباً من أن البنك المركزي أن ينتظر حتى أن تكتمل البنيات التحتية المطلوبة للدفع الإلكتروني بنسبة 100% كي يبدأ ذلك المشروع، ويحض الناس على هجر التعامل بالكاش؟ الإجابة لا، لأن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلّه، ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.
* الربط بين التطبيقات البنكية جارٍ حالياً، مع أن الحل النهائي سيتم بعد تشغيل المُحِّول القومي المملوك لبنك السودان، والذي تم تدميره بواسطة المليشيا، وقد نجح البنك المركزي في تهيئة منصة خاصة للربط المؤقت بالتعاون مع شركة EBS، وألزم البنوك بربط تطبيقاتها بها إلى حين اكتمال تركيب المحول القومي، الذي سيوفر الحل النهائي والكامل لمشكلة الربط.
* حسب علمي فإن البنوك التي استجابت حتي اللحظة تجاوز عددها العشرين، وهي في درجات مختلفة من مراحل استكمال الإجراء.
* نذكر هنا أن المليشيا المجرمة خربت كل أنظمة البنك المركزي واستولت على مقره الرئيسي ونهبت ممتلكاته واحتياطاته، واضطر البنك المركزي إلى أن يبدأ عمله من تحت الصفر في بورتسودان، وتمكن من استعادة معظم أنظمته ووفر الكاش للبنوك ومكنها من خدمة عملائها والوفاء بإلتزاماتها بعد وقت قصير من لحظة بداية الحرب وما فعله يعتبر معجزة بكل المقاييس.
* لم يضيق بنك السودان على الناس كما يردد البعض، بل سمح بالتحويل من حساب إلى حساب من دون تحديد سقف للعملاء داخل البنك، من عميل داخل البنك إلى عميل في بنك آخر، وسمح بالتحويل بين التطبيقات للعملاء داخل البنك في حدود 15 مليون جنيه يومياً، وسمح بالتحويل عبر التطبيقات (بنكك وفوري على سبيل المثال) في حدود مليون جنيه يومياً، وذلك لاعتبارات فنية قدرها بنك السودان المركزي.
* بخصوص ما يتردد عن نفاد العملات الجديدة نطمئن المشفقين بأن ما تم استبداله حتى اللحظة من نقد لم يتجاوز ثلثي الشحنة الأولى المستلمة من العملة الجديدة، علماً أن البنك المركزي تسلّم حتى اللحظة شحنة واحدة فقط من ثلاث شحنات متساوية من حيث عدد الأوراق النقدية المطبوعة، وأن كمية النقد المتعاقد على طباعته لم يحدد اعتباطاً، بل تم بناءً على إحصائيات دقيقة صدرت من سجلات إدارة الإصدار ببنك السودان، التي تعلم كمية الأوراق المطبوعة والمصدرة سلفاً ولديها رصد دقيق لها.
* لا توجد دولة محترمة تسمح لمواطنيها بالتعامل مع أوراق النقد (بالشوالات) كما يحدث عندنا، والتعامل بالكاش بمبالغ ضخمة مجرّم في كل مكان، ويتم حصرياً عند عصابات الجريمة المنظمة ومافيا تجارة المخدرات والبغاء والمراهنات غير الشرعية وغيرها من الأنشطة الإجرامية، حيث يتطلب غسل تلك الأموال وإدخالها إلى إلى البنوك جهداً مضنياً سعياً لإخفاء مصادرها الأصلية.
* السداد الإلكتروني يحد من تزوير العملة، ويقلص جرائم الاختلاس، ويسهل المعاملات الحكومية والتجارية ويسرِّع وتيرتها، ويحفظ الأموال في أوعيتها الطبيعية الأكثر أماناً وموثوقية.
* فوق ذلك فإن حفظ النقد داخل البنوك يقضي علي ظاهرة التجنيب التي تمارسها بعض المؤسسات الحكومية، ويفيد وزارة المالية في تحصيل وزيادة الموارد ويعزز ولايتها علي المال العام، ذلك بخلاف إسهامه في توفير موارد النقد الأجنبي الضخمة التي تضيع هدراً في طباعة الأوراق النقدية، في زمنٍ تحتاج فيه بلادنا لأي دولار لدعم جيشها الذي يخوض معركة وجودية من دون أي دعم خارجي مالي أو عيني، وفي ظل انحسار مريع لموارد الدولة نفسها.
* علاوةً على كل ذلك، فإن وجود الأموال داخل الأوعية المصرفية من شأنه أن يدعم موقف السيولة للبنوك ويحفزها علي تقديم مزيد من التمويل للعملاء في مختلف القطاعات الاقتصادية؛ (الزراعية والصناعية والخدمية وغيرها).. وبالتالي يدعم النمو الاقتصادي.
* مفهوم جداً ومتوقع أن تحدث بعض الاختلالات والاختناقات في عملية استبدال العملة والدفع الإلكتروني، لكن ذلك كله إلى زول بإذن الله ثم بإرادة وخبرات وقدرات القائمين على الأمر في بنك السودان المركزي، المهم حقاً أن لا تعوق تلك الاختناقات (المؤقتة) التوجه الاستراتيجي نحو توسيع دائرة السداد الإلكتروني ومحاصرة سرطان التعامل بالكاش.
* خلاصة القول إننا ندعم الخطوات التي اتخذها البنك المركزي لترسيخ قواعد السداد الإلكتروني والحدّ من التعامل بالكاش، ونتحدث هنا عن مؤسسة وطنية عريقة لها ضوابط وتقاليد راسخة وإدارات متخصصة وخبرات تراكمية ثرة وكفاءات مقتدرة تعينها على تجاوز مثل هذه المصاعب والأزمات بسلام.. لذلك نقول لكم ثقوا في مؤسساتكم الوطنية وادعموها ولن تخذلكم بإذن الله.
* البنك المركزي يستحق المدح لا القدح، والدعم لا التثبيط، والمساندة لا المعارضة، لأن ما أنجزه بعد الحرب يثبت حقيقة واحدة بالغة الأهمية، مفادها أن سوداننا ما زال بألف خير وأن مؤسسات الدولة السودانية باقية وصامدة ومتطورة مهما حدث.. وبرغم أنف الساعين إلى تدميرها وهدمها.. وهيهات!