صهيب حامد يكتب : آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكّلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها. (٢-١٠)
صهيب حامد يكتب :
آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكّلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها. (٢-١٠)
جذور الآيديولوجية العروبية عندالفونج:
إن أهم درس في حقبة الممالك الوسيطة والذي َ سوف يلهمنا كثيرا في منهجية تتبع تشكل آيديولوجية المركز العروبي في السودان ،أقول أهم درس هو كيفية إزدهار وإنهيار آيديولوجية الأسرة الفنجية الحاكمة (الأونساب). لقد حكمت هذه الأسرة منذ ١٥٠٤ انطلاقا من البلاط السناري كل المجال من فازغلي إلى دنقلا و من التاكا وسواكن والي كردفان مقيمة شبكة من العلاقات الإجتماعية التي تفسر صمودها لأكثر من ثلاثة قرون متغلبة علي كافة التحديات التي كادت أن تعصف بها في كثير من المنعطفات.
لم يدرك الكثيرون وإلى اليوم أسباب قوة دولة الفونج وكيف أنها إستطاعت أن تعيش كل هذه الحقبة ، وكيف أنها إستطاعت بموهبة لا تنئ تشكيل نخبة حاكمة إستغرقت كافة ألوان الطيف الإجتماعي بالمملكة متحولة إلى ما يمكننا تسميته (بالأرثودكسية الإجتماعية) في الفضاء الجغرافي الذي حكمته أنذاك. في كتابه (عصر البطولة في سنار) يقول جاي اسبولدينق ( فالأكيد أن تنظيما قرابيا يستمد أساسه من النظام الموسى – أي الامومي-قد إنتشر وسط كل قطاعات من تحدثوا اللغة النوبية في السودان النيلي، وقد ألهم هذا النظام النخبة النوبية وأمدها بأسباب القوة والحياة في الفضاء الذي كانت تحتله الممالك النوبية القديمة إبتداءا من نوباتيا الى المغرة وإنتهاءا بعلوة وفي فضاء هذه المملكة الأخيرة عاشت سلطنة الفونج فيما بعد لأكثر من ثلاثة قرون).
تحكي الأسطورة الفنجية التي ينقلها (كاتب الشونة) في مخطوطته أن حكيما غريبا تدور حوله الكثير من دوائر الغموض قد سيطر على الحكاية الشفاهية الفنجية بعد أن تزوج من إبنة ملك قديم وأنجب منها سلالة صارت محل تقديس وسط الفنج. ورغم أن مفهومة (الحكيم الغريب) هذه لم تقتصر كوعاء رمزي او رمز ثقافي (كما يسميها هولت ويوسف فضل على رواية ابراهيم اسحق في دراسته للسيرة الهلالية) أقول لم تقتصرعلى الفونج فحسب ولكنها تسيطر على كافة ممالك الفضاء السوداني الكبير، فقصة أحمد المعقور مؤسس أسرة الكيرا الحاكمة في دارفور وكذلك الأسرة الحاكمة لدى البني عامر (النابتاب) والأسرة المالكة بَتقلي ، هذه جميعها أساطير تأسيسية تنقل وقع الحافر مع الأسطورة الفنجية مما يعني أن القصة تمتاح من وعاء ثقافي ورمزي كبير !!. تلك هي الأسطورة .. إذن ما هي الحقيقة!!؟. إن الحقيقة التي يمكن توثيقها فهي أن عادات البلاط في سنار قد درجت على وجوب تزويج كل سلطان قبل التتويج ولتوه إمرأة من نسل تلك المرأة والتي يطلق عليها (بنت عين الشمس) وهي من فرع يسميه الفنج الاونساب نسبة لخور أنسبا بإرتيريا وفق الشاطر بصيلي (معالم تاريخ وادي النيل) .. كان ذلك يحدث على الاقل الى 1718 حيث احتفظ كافة سلاطين الفنج بأرومة انتمائهم لفرع أسرة الاونساب من ناحية الأم . حسنا .. يقول الرحالة الالماني ثيودور كرمب ولكي يتم ضمان وريث للعرش من هذه الزيجة السلطانية يعزل العروسان لمدة اربعين يوما حيث يؤمل ان تتمخض عن هذه العزلة إبن ذكر يحسم مسألة خلافة العرش بعد أبيه فيعزل عن أمه ويوضع في معتزل يسمى ب(حوش القواويد ) تحت رعاية شخص ما كبير النفوذ يلقب بمقدم (القواويد). يحرص البلاط السناري أن لا ينجب السلطان أكثر من ذكر واحد من بنت عين الشمس وإن حدث غير ذلك فيساق بقية الإخوة الأشقاء يوم تنصيب السلطان الجديد إلى الإعدام حفاظا على الأمن والإستقرار ويقوم بذلك مقدم القواويد العالي ذكره . بالطبع تحدث بعض الإستثناءات حيث يستطيع أحد الأشقاء الهرب بمساعدة أمه او غيرها كحالة الأمير قريش في 1699 الذي هرب الى الحبشة وصار مهددا لإستقرار السلطنة.
حسنا ..وهكذا كي نعلم أن أي من سلطان فونجاوي ليس له شقيق من الناحية القانونية حتى وإن وجد ، كما أنه ليس له من عم في الجيل الثاني. وإن كان يتوفر دائما على خال ذي تأثير كبير يلعب أدوارا مهمة إلى جانب أم السلطان . من هنا أتى الدور الركيزي للخال في المجتمعات النيلية وتدخله في تحديد مصير أبناء شقيقته بشكل كبير.ذلك من جانب ولكن من جانب آخر يتدخل مكانيزم آخر يعوض هذه العزلة الملوكية ، فإنه وفي كل الأحوال ولدى تنصيب أي شيخ جديد على أحد أقاليم السلطنة فإنه كذلك يزوج من إحدى قريبات السلطان حتى وإن كان متزوجا من أخريات فتذهب معه الزوجة الجديدة إلى عاصمة الإقليم إلى أن تحبل بمولودها الأول فيؤتى بها إلى بلاط السلطان فتضع حملها (لم تزل عادة ولادة الطفل البكر في بيت جدته سارية إلى اليوم) فإن كان ذكرا تتركه كذلك في حوش معلوم ملحق بالبلاط يسمى بحوش (السواكرة) ، فيتعهد هذا الحوش أمين يسمى بمقدم (السواكرة) وهؤلاء الأخيرين ليسو سوى رهائن ملكيين يتم إستخدامهم وقت الحاجة في الصراع مع البلاطات الإقليمية. أما الزوجة فترجع إلى بلاط زوجها الإقليمي ، وهكذا تحقق هذه السياسة الإحتوائية عدة اهداف.. الأول تنشيئ وريث العرش الاقليمي المستقبلي مع السلطان القادم بعاصمة السلطنة وقد ارتبط به برباط الدم ، أما الهدف الثاني فتخديم قريبة السلطان زوجة الحاكم الإقليمي كجاسوسة تتعهد مصالح السلطان في بلاط زوجها أكثر من حرصها على مصالح هذا الزوج وأخيرا وضع هذا الإبن كرهينة تضمن السلوك الحسن لوالده. هذا الزواج الملوكي من قريبة السلطان كان ساريا في كل بلاطات الأقاليم في قري والقربين وخشم البحر والأليس (الكوة) وكردفان والتاكا والأتبرا وفازغلي ومثاله زواج شاع الدين ود التويم شيخ التاكا من الشكرية من الأميرة االفنجية بياكي وكذلك زواج إبنه نايل من أميرة تدعى بياكي كذلك!!.
و بذا تتضح اركان النخبة الفنجية وهي تقوم على أساس أموسي (بمصطلح انتروبلوجي) وليس نظاما (أببيسيا). حسنا .. إذن في الواقع أن السلطان الفنجي يؤسس سياسة (للإحتواء) يضمن بها ترابط النخبة الحاكمة سواء في سنار او عواصم الأقاليم كي تنجلي الصورة عن نخبة من النبلاء الحاكمين تتبع لنفس الأسرة السلطانية وتدين لها بالولاء ، ولكن لا يقف الأمر عند مكوك الأقاليم ولكنه يتجاوز ذلك لينسخ هؤلاء المكوك نفس هذا النظام (سياسة الإحتواء) إلى المستويات الأدني في الإقليم ، فيقوم المك بتزويج نساء أسرته إلى أتباعه ومعاونيه في المستوى الأدنى وهو ما تؤكده الوثائق حيث تأكد ممارسة مكوك القربين والأليس لهذا النظام. لقد ذكر الرحالة لويس بيركهارت أنه لدى مروره بشندي في 1818 علم أن ملكها شخص يدعى (نمر) وهو من أسرة عجيب الفونجية وهي الأسرة التي كان يتحدر منها السلطان نفسه. كذلك فإن الأيديولوجية الفونجية كانت تتأسس بالمعنى التيولوجي على تأليه السلطان وإمتلاكه البركة لذا يسمى الكثير من السلاطين ب(بادي)، حيث كان حديث السلطان وهو على الكرسي الرسمي يأخذ شكل القانون كما يقول الرحالة الألماني ثيودور كرمب. إذن فإن الفونج كانت تقوم على نظام فكر (أبستيمة) يستمد منطقه من العادات والتقاليد الإحيائية المحلية ، وكان نظام الفكر أعلاه يضع السلطان في مركز دائرته ومستمدا منه منظومته الروحية الكاملة وهو الأمر الذي منح السلطنة المنعة التي جعلتها تقطع كل هذه المسافة الزمنية التي تمتد منذ مبتدأ القرن السادس عشر إلى لحظة سقوطها في ١٨٢١م. ولكن ومنذ نهاية القرن السابع عشر ومبتدأ الثامن عشر طفرت علامات في فضاء السلطنة أدت لمتغيرات أضعفت قبضة السلطان ودشنت التفتت التدريجي لقوتها في الفضاء الذي سيطرت عليه وهو ما سوف نسهب فيه في الحلقة القادمة.. نواصل.