حسين خوجلي ينقل احتفال تحرير الخرطوم على الهواء مباشرة:
حسين خوجلي ينقل احتفال تحرير الخرطوم على الهواء مباشرة:
عادت الخرطوم فعادت الجماهير إلى أمصارها والأنغام إلى أوتارها والأطيار إلى أوكارها
لا ندعي حزمة الادعاءات المثيرة للجدل الفقهي والتاريخي لغلاة الباطنية، الذين يصادرون المعقولية بينهم وبين التلاميذ والحيران بالعبارة الصوفية الموغلة في التجريد “كنت البارحة غائبا في الحضرة النبوية” ثم يدلي بأوامره التي لا يعترض عليها أحد. عكس جدلية المحدثين والفقهاء والمجتهدين الذين يعتمدون على العقلانية والتفسير لا الغيبيات المطلقة والتأويل.
لقد رأيت في ليلة الجمعة قبل اذان الفجر طائفة من الخواطر والتداعيات كانت محصلتها هذا الوجود العميق في بلادي وشعبها ومدنها في قلبي. وانا معتد جداً أنني رفضت منذ أيام الطلبة الأولى في الثانويات أن أغادر السودان لإكمال دراستي بانجلترا بطلب خاص من السياسي الأمة الشهيد الشريف حسين الهندي، والراحل العالم المجاهد الفاضل عثمان خالد مضوي. وقد أعادوا ذات الطلب بعد اعتقالي ونقلي في كوبر في حركة الشهيد حسن حسين، وبعد اعتقالي بعد الانتفاضة المباركة عام ٧٦ واستشهاد الدكتور عبدالاله خوجلي.
كان ظني أن البقاء في السودان شرف لا يدانيه شرف مهما كانت العوائق والعثرات والابتلاءات، بل أنني واصلت هذا المنهج حين ضاق الرزق بايقاف ألوان والمساء وقناة أمدرمان عدة مرات، وكان الصبر الجميل والحب العميق لهذا الشعب الطيب ولهذا الوطن النبيل ترياقاً لكل الآلام ومرهماً ضد كل العذابات. وعبر هذا الهوى العذري بهذه الأرض الطيبة كانت هذه الخاطرة بالرؤية الصادقة التي أكملتها ببعض الواقعية والصدق الفني.
١/ بعد ساعة واحدة من بيان الناطق الرسمي بإعلان تحرير الخرطوم وعودتها إلى حضن الوطن الحبيب وتطهيرها من رجس ودنس الغزاة والبغاة والقتلة واللصوص، تدافعت الحشود والمسيّرات بمئات الألوف من أحياء الخرطوم الجديدة والقديمة وقراها المحيطة، تدافعت عبر الكباري الالاف المنتشية بالنصر الكبير من بحري الفياضة بالخير والمهابة وأمدرمان العامرة بالعراقة والامجاد. والتفت الملايين حول القيادة العامة يعلوها هتاف النصر واشارات وعلامات وقبضات الانتصار وهي تحي نفسها وتحي قيادتها بهذا العيد الكبير الذي لم تشهد الخرطوم مثله الا حين اعلان الاستقلال، حيث خرجت الملايين كالحمامات بجلاليبها البيض وهي تعلن للدُنا مولد سودان ٥٦ إضافة للعزة والشرف الأفريقي والعربي واضافة مفعمة بالثراء والرفعة لصالح الانسانية.
٢/ هزتني من بعد هتافات الجماهير المترعة بالصدق والعنفوان والحقيقة، فخرجت بلا استئذان وقد زلزل الفرح جوانحي واعادت لي الشعارات عنفوان الصبا القديم “وشالتني الهاشمية” ويممتُ صوب القيادة دون أن اخطِّر أهل البيت فلحقت بي دكتورة مهيبة ابنتي وهي تردني بصوت خفيض “انت يا بابا بقية مرض ومازلت في أيام النقاهة” فقلت لها دون أن ألتفت للتحذيرات والتنبيهات: هل هنالك شفاء أنجع من شفاء الوطن وأوبة الخرطوم وخروجها الطاهر من براثن الأعداء؟ انا ذاهب كما يقول أهلك في الجزيرة الخضراء غير آبه ولا هياب “سجن سجن غرامة غرامة” فمن أراد منكم أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، فليلحق بي عند تلك الساحة وستجدونني في قلب الجماهير التي أدبتني فأحسنت تأديبي “مواطن ساكت وعادي” افرحُ بهتافها وأسعد بشعاراتها واشتم منها وفيها عَرق الكفاح وعطر الضنا ودمع العذابات.
٣/ كانت الساحات من القيادة حتي بري شرقا تحتشد بالجماهير المتلاطمة وقد أقبل المزيد من شمال الخرطوم، وعبر الكبري من بحري وأمدرمان القديمة والجديدة والفتيحاب وفي مقدمتهم طلائع مدينة الأمير محمد أمبدة وآخرون انشقت عنهم الأرض والغيم والسحابات من الناس الطيبين و الجن المؤمن و”الجن الاحمر”.
٤/ امتدت من قلب القيادة العامة منصة صنعت على عجل وتزينت بعلم السودان الذي أضفى على المشهد بالوانه الزاهية ألقاً وجمالاً وأطلت القيادات السيادية والعسكرية واضاءت المنصة بمحياها الأسمر وابتساماتها الخضر الوضيئات، هؤلاء القادة الذين صاغوا وصنعوا الانتصار صبراً وحجة ومصادمة وأعلوه سماحة واقتداراً طوبة طوبة ومدماك مدماك من ليل الأسى ومر الذكريات.
ومها اتفق واختلف الناس فيهم وحولهم فإن الشعوب والحقب والمشيئة لابد أن تفرز قادتها فهم في هذا المنعطف الخطير في تاريخ بلادنا “بعض من توقعنا لو لم نجدهم عليها وفينا لاخترعناهم”.
كان في المقدمة الفريق أول ركن عبدالفتاح عبد الرحمن البرهان القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة ورمز المسيرة والانتصار وقد امسك بقبضته عنواناً للتلاحم وهو يحي الجماهبر التي طالما اطمئنت له واطمئن لها، وهو ينقش بالإبرة تارة وبالكلاش تارة وبالسوخوي تارة وبالصدام تارة وبالسلام تارة، حتى بانت لوحة الخرطوم المحررة السعيدة والمجللة بالبركة والعديل والزين، واصطف حول الرجل اخوته من القيادات المقاتلة بصفوف الجيش الجسور بمختلف الرتب والمقامات والأدوار الجهيرة والمخبوءة، كانوا بجواره كالسوار البلاتيني حول المعصم الواثق وهم يناصرونه بالتهليل والتكبير:
الفريق أول ركن شمس الدين كباشي إبراهيم نائب القائد العام، والفريق أول ركن ياسر عبدالرحمن العطا مساعد القائد العام، الفريق أول أمن أحمد إبراهيم مفضل مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات، الفريق أول شرطة حقوقي خالد حسان محي الدين مدير عام الشرطة، الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين رئيس هيئة الأركان، الفريق اول ميرغني ادريس سليمان مدير عام منظومة الصناعات الدفاعية، الفريق الركن مجدي إبراهيم عثمان خليل نائب رئيس هيئة الأركان للإمداد، الفريق مهندس ركن خالد عابدين محمد أحمد الشامي نائب رئيس هيئة الأركان للعمليات، الفريق الركن عباس حسن عباس الداروتي نائب رئيس هيئة الأركان للإدارة، الفريق الركن عبد المحمود حماد حسين عجمي نائب رئيس هيئة الأركان للتدريب.
وقد منح الحضور المهيب لثوار المشتركة الذين أعطوا لعودة الخرطوم معنى، حيث كانت عيونهم هنا وقلوبهم مع الفاشر والأخريات، وكان في طليعتهم المارشال مني اركو مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان الذي حيته الجماهير مع رفيق دربه في الكفاح من أجل السودان الواحد، القائد جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، والقائد مالك عقار برتبته العسكرية والسياسية وتوالت اطلالات قيادات المشتركة المكللة بالنصر والفوز الكبير القائد مصطفي تمبور، القائد عبدالله يحى، القائد بحر إدريس أبوقردة، والقائد خالد ثالث. وقد غاب عن المنصة التاريخية قيادات الفرق المقاتلة التي اعتذرت عن الحضور رغم اهميتها متعللة بانهم لم يستطيعوا ولو لساعة واحدة أن يغادروا خنادقهم وثغورهم ومدنهم العصية على أطماع عملاء وسماسرة الداخل والخارج. والعتبى لبعض الأسماء والقيادات التي غابت عن الذاكرة والرؤية الصادقة لا سهواً ولا تجاهلاً، ولكن يبقي هذا ابداً حظ “الأتقياء الأخفياء” المحفورين في أرواح الجند وقلوب الجماهير.
٥/ لقد اسعدتني الشعارات والهتافات غير التقليدية المنطلقة والطليقة بعفوية من حناجر الجماهير وأهدت بحضورها للمكان والأنفس مرحا ثورياً كانت تحتاج له بعد ليالي الصبر والمسغبة والجراح والنزوح. وقد استقرت في خاطري بعض الشعارات الوسيمة علي شاكلة:
– شعب واحد .. جيش واحد.
– نضال وثبات .. دنقلا جات .. والخاين فات.
– مروي حديد .. رغم التهديد.
– عطبرة .. صامدة وشاكرة وحامدة.
– البقعة وبحري .. سوت لينا الحل السحري.
– الهجانة كلام الدانة .. فصيح ورطانة.
– مشاة وخيّالة .. فتحنا نيالا.
– مدني بخير .. يا احمد خير.
– قحط مريبة .. والدعم مصيبة .. حمد والديبة ..(صدمة) عجيبة.
– سامي وقُلة .. وحموري مدني .. حبابا نيالا ضروري.
– التعقيم والكمامة .. جنينة نضيفة .. بدون دعامة.
– يا برهان .. بلد غير وحدة مافي ضمان.
– ميسنا رفاعة .. سلاحنا صناعة .. وقوتنا زراعة.. لا تأجيل ولا تسويف ولا شماعة.
– سودانا الآن يا برهان ..لا فيهو عميل ..لا فيهو جبان.
– التار بالنار يا سنار.
– يا برهان قوت الناس .. السوّاي ما حدّاث.
– فرسان عَبري ..بالحق والدغري ..عبروا الكبري.
وهنالك العشرات من الهتافات الموحية والذكية والشعبية افلتت من الذاكرة صوتاً وبقيت في القلب صيتاُ.
٦/ لست ادري من الذي اغرى قناة السودان وقناة ولاية الخرطوم والمراسلين بالقنوات الأجنبية والعربية أن يصطادوني بمفاجاة لم أكن مستعدا لها فقد اتفقوا على المؤامرة وقالوا بصوت واحد مع مذيع المنصة أنت يا أستاذ على الهواء مباشرة لتقدم للناس الخرطوم المنتصرة والقيادات والجماهير ولتوثق هذا اليوم السعيد لأوبة الخرطوم عاصمة اللاءات الثلاثة.
ولأنهم لم يتركوا لي مساحة للاعتذار فقد استدعيت من الذاكرة كل فن الصنعة القديمة التي احترفتها في ألوان كتابة وفي قناة امدرمان أداءا وفي اذاعة المساء تقديما، وتوكلت على الله وأنا أدعو أن ييسر لي أمري ويحل عقدة من لساني ليفقهوا قولي، فكانت هذه التقدمة قطع اخضر والله المستعان.
٧/ يا جماهير شعبنا المناضلة المجاهدة الصابرة على مظالم المتأمرين وظلمات الغدر والخيانة لكم تحية العز والشرف والكبرياء وأنتم تقتحمون الخرطوم تحريرا وتعقيما من شرور الخونة، بل تحررون السودان من أقصاه إلى أدناه هدية فخر لكل ابطالنا وقادتنا وشهداءنا.
وتحية لهذه الكوكبة الشريفة المشرفة من القيادات العسكرية التي منحت مع الجماهير هذا النصر التليد، ولأن السيرة تغري بالمسيرة فإن أشرف الاستهلال يبدأ بالآية البشرى الكريمة “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” والتحية بعدها من قلب القران العظيم للأحياء الشهداء الذين يحييون في سبيل الله لبناء السودان المعافى القادم وللشهداء الذين يعيدون بالترحيب القدس القادمين “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”
يا جماهير شعبنا الوفية ويا المقاومة الشعبية الباسلة ويا القيادات التاريخية من الغُبُش المتعففين الأوفياء مهما تدافعت مسيرات الحقد الأجنبي صوب المدن السودانية الآمنة ومهما توغلت بحقدها القديم لتحطيم البنية الأساسية لهذا الشعب الصابر الزاهد، تلك البنية التي بناها بأصابع المثابرة، ونقش مولدها على شرفات التاريخ، ومهما تطاولت أصوات العملاء بالخارج ترديدا للنشيد الوثني الشيطاني لقوى الاستعمار الجديد والشركات الظالمة المتعددة الجنسيات التي تنظر لبلادنا كمستودع قادم للثراء الحرام بعيداً عن الشعب والتاريخ، فلن ينالوا ما هذا الشعب مطلبا ولا من أرضه شبرا ولا من تاريخه تراجعا.
إن هذا التحالف الملعون مهما فعل فإنه لن يستطيع أن يكسر إرادة هذه الجماهير الجسورة. وما انتصار مدني ونظافة قرى الجزيرة الجريحة، وثبات الفاشر المطلق، والأبيض الباسله والمجلد الكبرياء إلا وعداً لقوى الخير والحق والسلام بأن سودان العزة والشرف والكفاية والعدل بثورته وثرواته، وطلائع ليوثه من المبدئيين قادم لا محالة على الطريق ليقتحم بالبشرى والبشارة والانتصار الجنينة ونيالا والضعين والخرطوم “بت مقرن النيلين” التي كان انتصارها البليغ ختام المسك وألق القارات وعطر المداين لتأسيس دولة العز وكنز الفرح كما يقول الثقاة الصوفية والعارفين. وحينها سيصدح سلاح الموسيقي وموسيقى السلاح بهتاف الأوبة:
إن غاب الاسد حارس عرينو مهابه
وإن طال المَحل لابد تكسرو سحابه
ما دام العميل حرش ضواري كلابه
لابد أب زنود يرجع يسوس الغابه
أخي الرئيس الفريق أول عبد الفتاح البرهان تقدم لتخاطب جماهير الشعب فإن اذانها كلها إصغاء وقلوبها كلها انتباه وسواعدها كلها رفعة يوم تحرير الخرطوم، هذا التحرير الذي تنتظره أفريقيا والعالم العربي والعالم الاسلامي، بل العالم أجمع والكون بأحر من الجمر.
كل الذي نطالبك به أن تبتدر الخطاب التاريخي بالشعار الموحد “شعب واحد جيش واحد ” شعار الصبح المضئ بالانتصارات والشموخ أليس الصبح بقريب؟