ألسنة وأقلام بابكر اسماعيل يكتب: *بدر في سمانا.. وتاركو*
ألسنة وأقلام
بابكر اسماعيل يكتب:
*بدر في سمانا.. وتاركو*
دُرديب في ١/ ٢/ ٢٠٢٥
كانت نفسي تحدثني وتصرُّ أن قد آن أوان زيارة الوطن الجريح لتكتحل أعيننا برؤيته بعد غياب قهري أكمل العامين .. وهي أطول فترة غياب لي عنه ..
عامان كاملان فاطمان وهيهات أن أُفطم من حبّه ولم يرتوِ بعدُ جوفي من ماء نيله العذب الزلال ..
عامان لم تمتليء فيهما رئتاي من هوائه وهواه الشافيين للعليل ..
ولم تتغبّر قدماي في طرقاته ..
ولم يتذوق فمي ثماره اليانعات ..
وبصله وفومه وعدسه وعدسيته والبركاوي ..
اشتقت لجلسة المغارب أمام ديواننا بسنار الخير ..
لنعزم الغاشي والماشي والقانع والمعتر .. على الجلوس وشاي اللبن ..
حرمت فيهما من الحوامة بالجلباب والشبشب في حواري الخرطوم تلاتة حيث بيت الضيفان والحبان … وأمّونة ..
ومن النوم في الحيشان الوسيعة في طيبة الشيخ عبد الباقي .. وبرد الترع يداهم الليالي الوادعات بجزيرة الكرام “وبفباف الجنجويد” .. تلك أرض طاهرة تنتشر فيها القباب والمسايد ومنارات المساجد الإنبنت ضانقيل .. ولم يدنس ترابها سوى أن وطِأته أقدام قجة وجلحة وأسراب الشفشافين الأنذال ..
..
حُرمنا من السجود في تلك البيوت التي أذن الله أن تُرفع في كل حيّ وصوب من وطني المؤمن .. وقد فُرشت ببروش السعف والفرشات البلاستيكية الرخيصة أو بقطائف بطائنها من إستبرق في أحياء ذوي الدثور ومسجد النور .. حيث جنى الجنتين دانٍ ..
تضغط الحصيات الصغار على جبهتك ساجداً على حصير بالٍ .. فتتداخل وخزاتها مع تسبيح الله الأعلى ..
ثم تلتصق أوبارها الملونة الهشة على جبهتك .. اللهم أنت السلام ..
ومنك السلام ..
تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ..
ويمتد إليك كف معروق خشن ..
عن يمين ويسار ..
تقبّل الله ..
تقبّل الله ..
ذلك الوطن الجميل الوسيم القسيم ..
جرينا صغاراً في طرقاته جذلين..
ونصبنا الشراك لود أبرق وعشوشة ثم شوينا ما صدناه على نار أوقدناها ..
ألف باء تاء ثاء ..
وأستاذنا شوقي نور الدين ..
يقف أمام الفصل معلماً ومربياً ..
وثلة من خيار معلمي جيلي جميل غالي جرس ومحمود سرتانا وإبراهيم أبو راس وحسن وعبد الله الحسن الخضر وهاشم عبد الله وصلاح حسن عبد الماجد (أبو الريش) وبركات إدريس وعادل سعدابي وسامي وخلف الله والطاهر معاذ وعثمان إسنيك وقَسِم (كناية) وسيد (الخليلة) والأمين خيري (إستيف أوستن) وبكري (رفاعة) وأحمد حامد والسر حامد والفاتح عوض الفادني (الفاتح حيوان) وأخوه الرشيد وعصام هجو وأبو سامي وخالد عمر الإمام والرفيدة وعبد الرحمن قرشي وكمال نور الدين وأغا وأحمد علي “البرنسة” وحمزة محمد يوسف مجاور وعبد الله الصادق وبابكر نايل والشيخ أبو الحسن وزكريا ومبارك المدني وبشير والحاج ومن شمال الوادي عبد المسيح وسلامة وسليمان الزهجان (بونجور ياخوانا) وغيرهم كثيرون سقطوا من الذاكرة ولم يسقط ما تعلَّمناه منهم من علم وأخلاق صدقةً جارية .. تُزكّي أرواحهم وذكرهم .. من قضى منهم ومن ينتظر ..
تعلمنا الكتابة والهجاء في فصول دراسية فسيحة .. وفرتها لنا “دولة ٥٦” أطال الله بقاءها وأدام عزّها .. فصول سقوفها من ألواح الزنك تساكننا فيها بين الزنك والتلقيم أمم من الخفافيش والوطاويط … ونجلس فيها على كنبات من أخشاب رديئة ذات سرائح كالإبر في حرب مستعرة مع أرديتنا القطنية .. التي بالكاد تكمل العام الدراسي قبل أن تنفرج أساريرها … وتبتسم ضاحكة ..
حيّ الله جامعة الخرطوم وصابها الغمام ..
كثيرة غرباؤها تُرجى نوافلها ويُخشى ذامها ..
حيّ الله ال- جي إل تي وال- أو إل تي والأندرلاب والقلاس هاوس وشارع المين والمكتبة المين والنشاط ونادي الفلاسفة وشيخ البركس وتيس البركس والأكزام هول والميدان الشرقي وال- ون أو تو .. فتلك كانت مراتع صبانا:
دمنٌ تجرّم بعد عهد أنيسها .. حججٌ خلون حلالها وحرامها … بين الدخول فحوملِ ودُوَين الداون تاونِ ..
ومسجد الجامعة وما أدراك ما مسجد الجامعة والشيخ الحبر عبيد ختم يعتلي منبره واعظاً ومذكّراً ومعطراً لحلقات الذكر الحكيم .. وما دامت أعظم الشهيد عبيد تتوسد ثرى جوبا فهي عائدة وراشدة .. وإن طال السفر .
ومستشفي الخرطوم التي أُسست في العام 1902 – عندما كانت الأمارات رمالاً في الصحراء وقيظاً وهبوباً ودبيرة – تعلمنا فيها أسس الطبابة والمسئولية وأخلاق الطبّ والسياسة .. والكياسة ..تنقلنا في حوادثها وعنابرها وحواريها وجنباتها كان فيها رجال عظام ونساء عظيمات علمونا الطب والأخلاق والرجالة ..
أجريت أول عملية إزالة زائدة دودية لوحدي في فترة الامتياز تحت إشراف أخي الصدوق الشهيد عوض عمر وكان حينها نائب الأخصائي المشرف علىّ .. وتعلمنا فيها أسس الطب مع محمد الحسن الطيب وياسين أبو تركي وبابكر حمور وسليمان حسين وفاطمة فرح وفاطمة مختار وسلمى محمد سليمان ومكي الأزهري ..
مكيٌّ ذلكم الزاهد الراهب الذي يفرغ من دوامه بمستشفى الخرطوم القديمة ثم يسير راجلاً إلي المحطة الوسطى ليركب بص أمدرمان “شمّاعة” عائداً لبيته .. كيف لا يكون كذلك وهو شقيق إسماعيل الأزهري وحفيد إسماعيل الوليّ ..؟!
وأبو الطب داوود مصطفي لله درّه إذا رأيته بعينيك فقط فذاك كافٍ لتتعلم الطب والأخلاق والورع والصبر والزهد والصدق والأمانة ..
فكل أطباء السودان هم غرس يديه فكل طالب يدرس الطب فأستاذه في الطبّ جينياً هو داوود مصطفي فهو أستاذ أساتذة الطب وأساتذتهم
هم تلاميذه وتلاميذ تلاميذه وحصاد أعماله ..
تخرج أبو الطب داوود من كلية طب الخرطوم في العام ١٩٤٠م ومشيخات الخليج حينها كانت خياماً ورمالاً وبعران وقارصاً ..
رحمه الله وأحسن إليه ..
ذاك هو السودان الذي عرفناه وأحبّنا وأحببناه ..
تلك أرض الخير والبركات والرجال الصالحين والنساء الصالحات ..
ذلك الوطن الجميل الذي حرمتنا منه مليشيا الشفشفشة والشفشافين .. لن أغفر لها أبداً حرمانها لي رؤية البتول قبل الرحيل والبكاء عليها مستنداً على أكتاف إخوتي وأخواتي وأخواتها …
ولكن لابدّ من سنّار وإن طال السفر . فاستقليت طائرة بدر فطارت على ارتفاع ٣٦ ألف قدم وهي ترحِّب بنا بلسان سوداني مبين ..
وكنت بين الشك واليقين ..
أطائرة سودانية في الأجواء وكابتن سوداني ومضيفات ومضيفون .. !!!
أعجب وكيف أعجب وأنا من قطعت له وزارة الصحة تذكرة طائرة إلى عطبرة للعمل بها طبيباً عمومياً مبتدئاً في تسعينات القرن الماضي ..؟
والآن نفرح ببدر وطاركو ونحن في نهاية الربع الأول من القرن ال٢١ كأننا شيئاً “جديداً تحت الشمس” …!!
ويحدثني جدّ أبنائي- رحمه الله – عن سفره قبل ٦٠ عاماً إلى لندن على متن طائرة سودانير مبتعثاً من الإدارة المركزية للكهرباء .. وحينها كانت الأماراتية وفلاي دبي بين البعر والطين .. ولم يكن ثَمّ أماراتٍ ولا يحزنون ولا يوسوسون ..
وعندما أعلنتنا تلكم المضيفة أننا بدأنا بالهبوط التدريجي نحو مطار بورسودان الدولي ..
انهمرت دموعي كانهمار أمطار عِينة الخرسان في سنّار .. فلله الحمد من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ..
ولعنة الله تغشى الجنجويد المجرمين ..
عديمي السراويل ..