منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

د. عبد الله درف المحامي يكتب : *الدية التي أضاعها الناشطون*

0

د. عبد الله درف المحامي يكتب :

*الدية التي أضاعها الناشطون*

لم تشهد بلادنا انحدارا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا سحيقا كما شهدته أبان فترة حكم حمدوك وشلته من سابلة السياسة وأنصاف المواهب ، كانت أسؤ تجربة حكم مرت بها بلادنا حيث انتشرت الفوضى والفساد وسؤ الإدارة والارتهان للخارج ، ونتج عن تلك الفوضى الهدامة تدمير ممنهج للمؤسسات العامه والخاصة وتجريف متعمد لمعظم التشريعات التي تنظم الشأن العام وتستند لمرجعية إسلامية ، وكادوا أن يدمروا المنظومة القيمية للمجتمع لو لا ألطاف الله والفطرة السليمة لغالبية المجتمع، وأستمرت تلك الفئة البائسة في إشعال الحرائق والتحريض على القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى لاعتقادهم أنها العقبة الوحيدة أمام مشروعهم المجلوب من الخارج، ثم حين يأسوا من نيل مبتغاهم بانكشاف أمرهم لغالب الشعب ذهبوا يوسوسوا للهالك حميدتي وزينوا له بأنهم حلفاءه السياسيين وذلك من أجل التلويح ببندقيته لقضاء حوائجهم الحرام ، وبعدها خرجت قياداتهم تحرض وتهدد بالحرب إن لم يستجاب لرغباتهم الآثمة وطفقوا يصدعوا بمقولتهم الشائعة (الإطاري أو الحرب )وحينما رفض الإطاري من غالب أهل السودان كانت بندقيتهم جاهزة لتحقيق خيارهم الثاني (الحرب) عبر جناحهم العسكري مليشيا الدعم السريع ، وبحثا عن ديمقراطية الإطاري ومدنية الحكم أشعل حميدتي حربا لم يدع مرتزقته بيتا بالسودان وإلا تركوا فيه أثر جرح وفجيعة ستظل كامنة وباقية في قلوب وأرواح أهل السودان ما بقى حاكى أو مدكر من الذين حضروا هذه المقتلة التى روعت أرواحهم، ومن أنواع الدمار الذي أحدثه حمدوك ونشطاؤه التعديلات التي أجريت على القانون الجنائي في العام 2020، ومن بين تلك التعديلات التعديل الذي جرى على الماده 42/1 من القانون الجنائي والتي كانت تنص على ( الدية مائة من الإبل أو ما يعادل قيمتها من النقود وفق ما يقدره من حين لآخر رئيس القضاء بعد التشاور مع الجهات المختصة ) ، وفي التعديل الذى أجري حذفت هذه الفقرة وتم الإستعاضة عنها بفقرة جديدة تقرأ (تحدد الدية بقانون )، ووفقا للنص الملغي كان رئيس القضاء يشكل من حين لآخر لجنة من القضاة والجهات ذات الصلة تقوم بتحديد قيمة الأبل بمعيار شرعي وفقا لما يتطلبه الفقه من مراعاه لإعمار الأبل بحيث تضم (٢٠ أبن مخاض و٢٠ بنت مخاض و٢٠ بنت لبون و٢٠ حقة و٢٠ جذعة) وبناءا على تقييم الأبل نقدا يتم تحديد قيمة الدية ، وآخر تعديل لقيمة الدية كان في العام ٢٠١٦م حين أصدر رئيس القضاء المنشور رقم٤/ ٢٠١٦م والذى قضى بأن تكون قيمة الدية الكامله ٣٣٠ الف جنيه (ثلاثمائة وثلاثون ألف جنيه) والدية المغلظة ٣٣٧٥٠٠ جنيه (ثلاثمائة وسبعه وثلاثون ألف وخمسمائة جنية ) ، وبناءا على التعديل الجديد أصبحت الدية تحدد بقانون ولا سلطان لرئيس القضاء بتعديل الدية ، وبالتالى أصبحت الدية المحددة بالمنشور ٤/ ٢٠١٦م هي الدية السارية (حيث لم يتم ألغاء المنشور)..والسؤال الذى تبادر لأذهاننا حين أطلعنا على التعديل هو ..ما هو المعيار الذي سيستند عليه القانون (الغائب) في تحديد قيمة الدية؟!! لأن المعيار الوارد بالنص المحذوف (مائة من الأبل ) كان معيارا واضحا ومحددا ، عكس النص الجديد الذي جاء مبهما وغامضا وغير دقيق في تحديد المعيار الذي سيحدد القانون على أساسه قيمة الدية !!! وهذا التعديل غير الواقعي خلف آثار وتعقيدات فى الواقع العملي أمام المحاكم الجنائية عند الحكم بالدية وذلك لعدم صدور قانون الدية الذي جاء بالتعديل حتى تأريخ كتابة هذا المقال ، وذهب القضاة لتفسير النص مذاهب شتى فمنهم من اعتقد أن هذا النص الجديد مادام قد ألغى سلطة رئيس القضاء فى تحديد قيمة الدية فأن المنشور رقم ٤/ ٢٠١٦م الصادر من رئيس القضاء أصبح لاغيا !! وأجتهد بعضهم في الحكم بمائة من الإبل استنادا للشريعة الإسلامية لعدم وجود نص في القانون !!! ولكن تلك الأحكام ألغيت من المحاكم الاعلي لعدم جواز تطبيق نص تم إلغاءه (النص المحذوف) ، وأمرت المحاكم الاعلي بتطبيق ما جاء بالمنشور ٤/ ٢٠١٦م باعتبار أن تحديد الدية الواردة بالمنشور هي الواجب تطبيقها قانونا، وتلاحظ فى الوقت الراهن أن قيمة الدية الواردة بالمنشور المذكور أصبحت لا تتناسب مع التضخم الذي بلغ ١٤٥٪ وفق آخر البيانات الصادرة من الجهاز المركزي للإحصاء مما يجعلها عقوبة غير رادعة ولا تحقق مقاصد المشرع من العقوبة وهي الردع العام والردع الخاص ، وبالتالي يجب أن تواكب التشريعات المتغيرات التي تحدث بالبلاد لتحقيق غايات المشرع من النص على الدية حفاظا على النفس وجبرا للأضرار، وعلى ذلك فإن مواكبة المستجدات الاقتصادية الراهنة تقتضي أعادة النظر في قيمة الدية بإلغاء التعديل الذي أجري على نص المادة ٤٢/ ١ من القانون الجنائي واستعادت النص السابق حتى يتسنى لرئيس القضاء تحديد الدية وفقا للمستجدات التي طرأت
ومعلوم أن القانون الجنائي السوداني يعد الدية من قبيل التعويض أخذا بقول من يرى من الفقهاء أنها عوض عن الدم، وهي حق لأولياء الدم في حالة القتل وللمجني عليه في حالة الجراح ، وفى حالة عدم وجود وارث للمجني عليه ينتقل الحق في الدية للدولة باعتبارها ولي من لا ولي له ، والدية شرعت لتكون جزاءا يجمع ما بين العقوبة للجاني والتعويض للمجني عليه أو ورثته ، والغرض منها الزجر والردع للجناة وجبر ما أصاب المجني عليه أو ورثته عن ما لحق بهم من نقص ، وهذا يساهم في حماية الأنفس والتعويض عن الأنفس والأعضاء والجراح بالمال الذي يحصل عليه المجني عليه أو أولياء الدم، وبقاء قيمة الدية على حالها السابق (٣٣٠ الف جنيه) لا يحقق الغرض والحكمه من شرع الدية، وأنعكس هذا الأمر بشكل محزن على المتقاضين (المجنى عليهم في حالة الجراح وورثتهم في حالة القتل )..وقبل فترة قصيرة مثلنا الاتهام في قضية جنائية (حادث مرور) راح ضحيته شاب في الثامنة عشر من عمره كان يقود موتر وصدمته حافلة ركاب وتوفى المجني عليه وأصاب الموتر تلف ، وبعد سماع قضية الاتهام وقضية الدفاع قضت المحكمة الموقرة بالدية الكاملة لورثة المجني عليه مبلغ ٣٣٠ إلف جنيه وتعويض عن تلف الموتر وفق المستندات المقدمة مبلغ ٥٨٠ إلف جنيه !!!! فكان التعويض عن فقدان النفس أقل من تعويض تلف الموتر بالضعف !!!! وكان والد المرحوم (المجنى عليه ) حضورا بجلسة النطق بالحكم وحين خرجنا من المحكمة رأيت الأسى في عينيه وسألني بكل حسرات الفقد ( يادكتور معقولة روح ولدي تكون أرخص من صيانة موتر ؟؟!!!!)….كان سؤالا يضج بالحزن …شعرت بألم في قلبي المشبع بالوجع وأجبته وأنا أحاول أن أتماسك: ( إن روح أبنك غالية وأرواح كل أبناء السودان غالية وذات معنى …ولكن من يخبر هؤلاء الذين جاؤوا ألينا من المجهول وأفسدوا علينا دنيانا ..فالخراب الذي أحدثوه بالتشريعات كان عنوانا للخراب الذي عشناه بعد ١٥ أبريل ٢٠٢٣م ولكن نحن قوم لا ننتبه الا بعد وقوع الكارثة (
خلاصة الأمر على وزارة العدل العمل على مراجعة القوانين وهذا من صميم مهامها وأن تسعى لإصلاح القوانين لتمثل التعبير الأتم عن قيم العدالة في المجتمع السوداني وتواكب التطور في حياته ، وقد تم في هذا العام ٢٠٢٥م تعديل في قانون الإجراءات الجنائية وتركت نصوص القانون الجنائي المعدل للعام ٢٠٢٠م كما هي بكل عوارها تخرج لسانها لنا وكأنها تستفز روح الغفلة التي تصاحبنا في كل قضايانا الكبرى !! وألا ما الذي حال دون تعديل القانون الجنائي لا سيما النصوص التي أدخلت عليه في العام ٢٠٢٠م وأربكت القضاء والمتقاضين في الوصول للعدالة المرضية ؟؟!! لا سيما النص المتعلق بالدية لارتباطه بحياة الناس والحفاظ على الأنفس وجبر الأضرار وردع الجناة، لا أجد تفسيرا لهذا التقصير إلا قول سيدي المتنبئ:

ولم أرى في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.