صهيب حامد يكتب: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٤-١٠)
صهيب حامد يكتب:
آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٤-١٠)
(الفقرا) وإجتراح أشجار النًسبة العربية:
إذن فلقد أبنّا في الحلقة السابقة كيف حدث الإنقلاب على أسرة الأونساب من قبل الحلف الجديد (بادي الرابع – الأرابيب – الفقرا). ولكن كيف إمتص الفضاء السياسي والإجتماعي للسلطنة هذه النقلة العنيفة التى أعادت تعريف واقع النخبة لدى الفونج؟ وهي نخبة منتشرة ومتراصّة على المستويين الأفقي والرأسي على طول السلطنة وعرضها بلا إستثناء!!. بالطبع فلقد كان جميع الحكام يدعون الأصل الفونجي بحكم علاقة وروابط أمهاتهم .. إبتداءا من الشمال حيث أسرة الحاكماب مرورا بالعدلاناب والحنكاب في منطقةالشايقية ثم أسرة نمر الحاكمة بشندي مرورا بحكام قري وخشم البحر حيث حكمت أسرة آل كمتور وباقي الأسر الحاكمة في بلاطات مشيخات السلطنة وإنتهاءا بالبلاط في سنار ، هؤلاء جميعهم كانوا يدّعون الأصل الفونجي حقا وبلا مواربة. إن أبرز سمات (الأبستيما) الجديدة هي تدشين الإنتقال إلى وضع جديد باشره المنظرون من طبقة (الفقرا) بإجتراح أشجار النسب الأبوية لأعضاء النخبة الجديدة وهو ما يعد بداية عهود ثقافة التعريب في بلاط السلطنة والإنقلاب على النظام الأمومي وهو تطور إستمر تدريجيا إلى أن إكتمل لدى الفتح االتركي ، إذ ما من شجرة نسب متداولة وإلى اليوم إلا وقد سطّرتها أيدي هؤلاء (الفقرا) الماهرة وقد كانت هذه الموهبة مطروحة في السوق لمن يدفع حيث لم يعدم هؤلاء حيلة لأثبات أرومة الزبون العربية ولم يستثنى من ذلك حتى الدينكا والنوير والشلك كما يقول جاي إسبولدينق. إذن هل يؤدي هذا القول للشك في أوراق النسبة العربية المتداولة وإلى اليوم في مجتمعاتنا السودانية؟!. ليس ذلك على وجه الدقة ولكن الأكيد أن تسطير مثل هذه الوثائق هي من النوع الذي يحتاج لبعض التقنيات مثل معرفة الكتابة والقراءة وهو ما لم يبرز في مجتمعاتنا إلا لدى نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر عند ظهور المجتمعات الدينية ونخبتها من (الفقرا).
إذن لقد فلت الأمر من (الأونساب) خصوصا بعد النصر الكبير الذي حققه بادي الرابع على الأحباش في ١٧٤٤م ، وهو ما جعل منه بطلا قوميا إستحق التبجيل دون النظر لأرومته من جهة الأم. وهكذا حين أحس بادي بقوته ما بعد هذا التاريخ أخذ في إعادة هندسة الأرستقراطية الحاكمة، فرفع شأن (الفقرا) لأول مرة فمنحهم ثلث مناصب البلاط السناري وعلى رأسهم الولي الشهير حجازي بن النذير بن إدريس ود الأرباب. أما الأمر الأكثر إثارة فلقد قام بتقريب (الأرابيب) ووضعهم في مناصب مهمة في البلاط. إن تحالف بادي الرابع مع الأرابيب كان أمرا طبيعيا وثوريا للإطاحة بنظام الفونج في وراثة العرش. إذ أن الدستور العربي في الوراثة عبر الأب كان يمنح تفضيلا لكلا الطرفين (بادي الرابع والأرابيب ) وهو ما قننه منظرو أشجار النسبة (الفقرا). إذن تحالف بادي الرابع والأرابيب والفقرا كان أمرا قد إقتضته ظروف إعتلاء بادي الرابع العرش بسنار. وكما ذكرنا فإن الأرباب يرث مكانته من جانب الأم، ولكن حين يتزوج من العامة يصبح أبناؤه محض رعايا من العامة. إنّ تبني النسب الأبوي يجعل أبناء الأرابيب يتوارثون المكانة من آبائهم وهكذا يصبح بادي الرابع نبيلا شرعيا مثله مثل أبناء الأرابيب من جيله. إن إدخال بادي الرابع الأرابيب للقصر جعلهم من أشد المدافعين عن النسب العربي وبله أكثر إخلاصا لأسرة نول الملكية بحسب إسبولدينق. وها هنا ومنذ ١٧٥٢ نشأ ميل للبحث عن أسلاف من جانب الأباء للطامحين للإنضواء تحت لواء نخبة البلاط السناري.
أمر ذو دلالة.. وكما أسلفنا فلقد كان إنتصار بادي الرابع على الأحباش حدثا مدويا ليس داخل أرجاء السلطنة فحسب بل في كل أصقاع المحيط الإقليمي والعالم الإسلامي قاطبة. لقد إستعان بادي الرابع بقوتين برزتا مؤخرا داخل المجتمع السناري لهزيمة الأحباش.. الأمير المسبعاوي خميس بن جنقال وعصبته الذين لجؤوا لسنار هربا من أبناء عمومتم من سلاطين دارفور الذين تجددت حيوية مملكتهم مؤخرا وحولوا كردفان لمركز صراع بينهم وبادي الرابع، وكذلك ظهر الهمج بقيادة الشيخ محمد أبولكيلك. هذا الأخير برز آنذاك كقائد عسكري وفارس مقاتل لا يشق له غبار، بيد أنه كان يعاني من صعوبات في النطق و تبلد في التواصل الإجتماعي ويعاني من مرض لا فكاك منه مستعينا ببعض شيوخ التصوف للتداوي بلا جدوى. ندب بادي الرابع الشيخ أبولكيلك لمهمة طرد الفور من كردفان مانحا إياه معظم جيش السلطنة بعد أن تمكن من كسر شوكة الأحباش. هنا وجد بعض رموز أسرة الأونساب ضالّتهم في أبو لكيلك فإرتحل الذين تم التضييق عليهم من قبل بادي الرابع إلى كردفان مزينين لهذا الأخير الإطاحة بالسلطان مستعينين بدعاوي الفساد في البلاط إلى جانب سوء أحوال الجيش في كردفان. وهكذا زحف أبولكيلك بجيشه إلى حاضرة السلطنة مطيحا ببادي الرابع في ١٧٦٢م ومنصبا ناصرا بن بادي الرابع خلفا لأبيه. كي نعلم مدى ضعف الحس التاريخي لدى نخبتنا المعاصرة وهي تكرس لنفس الجريرة وقع الحافر في الحافر بعد قرنين ونصف القرن!!!!. رغم كل هذه المتغيرات ولكن ظل المجتمع السناري بعيدا عن الأرستقراطية الجديدة في وفائه لأسرة الأونساب خصوصا في ظل اللامركزية التي كانت تدار بها الكونفدرالية الفونجاوية كي يجد الأتراك وإلى ١٨٢١ م من يتسمون على أمهاتهم!!!.فلقد وجد الرحالة جيمس بروس حين مرّ بشندي في العام ١٧٧٢ أن ملكتها هي (ستنا) ليس بصفتها كأرملة للمك الفحل ولكن كأخت لمانجل قرى. وكذلك فلقد فضّل الملك عدلان أحد المرشحين (محمد ود نمر) حفيد المك إدريس في ١٧٨٤ لأنه من فرع الأم فضلا عن أنه متزوج من العبدلاب وفقا لروابط النظام الأسرى لحكام قرى.
منذ الإطاحة ببادي الرابع لم تشهد السلطنة إستقرارا، فلقد صار الهمج بقيادة الشيخ محمد أبو لكيلك وأبنائه من بعده هم الأوصياء المأذونين على السلاطين الذين صاروا ألعوبة بأيديهم، فلقد خلعوا ناصرا ونصبوا أخيه إسماعيل بدلا منه ثم خلعوا هذا الأخير ونصبوا إبنه عدلان بدلا منه. ثم خاضوا ضد هذا الأخير حربا لم تترك حجرا فوق أخيه على طول السلطنة وعرضها، وهكذا كي يتعاقب على البلاط أربعة وثلاثون سلطانا منذ الإطاحة ببادي الرابع وإلى أن ضربت خيول محمد علي باشا بسنابكها أبواب سنار في العام ١٨٢١م منهية ٣٢٠ عاما من حكم الفونج.. نواصل.