صهيب حامد يكتب : . *آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (١٢-٢٠)*
صهيب حامد يكتب :
. *آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (١٢-٢٠)*
صهيب حامد
حسناً..إذن وكما وعدنا في الحلقة السابقة وفي إطار فزلكة ديالكتيك البنى الذي حدث في المهدية ، يجمل بنا عرض ما حدث بدارفور في الفترة من ١٦٤٠م إلى ١٨٧٤م كما فعلنا بخصوص حقبة الفونج تمهيدا لتفسير (جدل التركيب) الذي لم يزل تحملنا عجلته الي اليوم بمصطلح أستاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد. وكما هي مصر هبة النيل فكذلك هي دارفور في الفضاء الذي حكمته سلالة الكيرا في الفترة من ١٦٤٠-١٨٧٤م ، نقول أن التنظيمات السياسية والإجتماعية والإقتصادية لدارفور وجزء كبير من كردفان وبعض أجزاء السودان الأخري لهي بألف ولام العهد هبة هذه السلطنة!!.
تقع دارفور – المسرح الذي قامت عليه السلطنة فيما بعد- بين خطي عرض ١٠” و١٦” شمال وخطي طول ٢٢” و٢٦” شرق وهو الموقع الذي منحها إستطالتها شمالاً وجنوباً. يقع في قلب هذا المستطيل بالضبط جبل مرة وهو مرتفع يمتد ٧٠ ميلا من الشمال للجنوب و٣٠ ميلا من الشرق للغرب إضافة لسهلين أحدهما الغربي وهو طيني يشقه وادي (أزوم) أكبر وديان دارفور الذي ينحدر من جبل مرة غربا ليصب في بحيرة تشاد تحت مسمّى نهر شاري. شرقاً من الجبل توجد كثبان رملية يقطنها في الخريف العرب الرحل لقبائل الرزيقات والمعاليا والهبانية والفلاتة وغيرهم. تقع دارفور ضمن ما يسمى بالحزام السوداني (Sudanic belt) وهو ممتد جغرافي بلا موانع من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر لا ينقّصه إلا بعض الكثبان والسيوف والتلال الرملية التي تفصل بين كردفان ودارفور. لذا فإن الإرث الثقافي والحضاري والسياسي لسلطنة دارفور شئ ليس بدعاً عن ممالك هذا الحزام ، بله فحين دراسة سلالة الكيرا التي سيطرت على بلاط سلطنة دارفور لا غنى عن الإطّلاع على تراث كل من ممالك ودّاي وكانم برنو وباغرمي وصونغي (Songhay) ومملكتي غانا ومالي لتفهم ما إلتبس على المهتمين بخصوص أصول وجذور تنظيمات وعادات ونظم سلطنة الكيرا وبالعكس ، بالطبع كذلك لتفهم التاريخ الغامض لكل من مملكتي التنجر والداجو السلفين الشرعيين لسلطنة كيرا.
شعب الفور من موطنه بجبل مرة هو المؤسس للسلطنة التي عمّرت في الحقبة من ١٦٤٠م إلى ١٨٧٤م والتي يسميها البعض بسلطنة الكيرا ويسميها بعض آخر بسلطنة الفور ، ولا غضاضة إن إستخدمنا الأسمين للدلالة على نفس المسمى في هذه السلسلة من الحلقات. يقول بيتون وكوك أن أصل الفور من الفرتيت ، إذ أن فر Fir (بكسر الفاء) أخ لفيرات Firat ، ولكن وإبتداءا من القرن الخامس والسادس عشر بدأت الأسلمة التدريجية لشعب الفور وبذا فإن جزء الفرتيت الذين لم يدخلوا في هذه العملية بدؤوا في التقهقر التدريجي جنوبا كي ينضمّوا لمزيج من الشعوب والقبائل هناك وبالعادة سماهم أهل دارفور جميعاً بالفرتيت. يشير هولت في معرض تفسيره لعملية أسلمة وإستعراب الفور لأهمية تأثير عنصر ثقافي أسماه بالحكيم الغريب (Wise stranger). يقول هولت مستطردا أن نموزج الحكيم الغريب لم يبدأ مع الممالك السودانية الإسلامية الوسيطة التي يمكن التأريخ لها أبتداءاً من القرن الخامس والسادس عشر على طول الحزام السوداني ،فمثلا وقبل ظهورها في سنار فهي إنتشرت على طول الممالك النوبية المسيحية التي تأسست بين ٣٥٠م – ٥٥٠م على طول النيل. كذلك وقبل إجتراح نموزج الحكيم الغريب لتفسير تأسيس سلالة الكيرا بدارفور فهي أيضا برزت في أوساط سلطنة التنجر لتفسير إنتقال السلطة للأخيرين من سلطنة الداجو. ولكن مع دخول الإسلام أخذ نموزج الحكيم الغريب يأخذ طابعا إسلاميا عربيا. وهكذا فإن تجاوز سلالة التنجر الحاكمة بواسطة سلالة الكيرا ينسب لأحمد المعقور وهو رجل عربي من أصل هلالي ينسب لأبي زيد الهلالي من شمال أفريقيا. أحمد المعقور أتى دارفور مطرودا من قبل أخيه بعد خلاف حول زوجة الأخير، كي يجد نفسه في ضيافة ملك التنجر (شو دورشيت)، للغرابة ولطاغية شهير ك(دورشيت) فلقد رحّب بالضيف العربي وزوّجه إبنته لإعجابه بأساليبه الحضارية في تنظيم تناول الطعام بين رعايا السلطان. إذن تعود أسباب إنتشار الإسلام بدارفور وسط التنجر ومنهم لشعب الفور لأحمد المعقور الذي بدأ وسلالته أولا بتلقين وتدريس السكان المحليين العادات المتحضرة وأولها الإسلام كي يتزوج أبنائه فيما بعد داخل فرع الكنجارة من الفور مكونيين سلالة الكيرا (من خَيٓرة) مدشّنين سلالة جديدة مقدّسة داخل الإطار الإجتماعي الذي إستضافهم. من هذه الرواية أعلاه يقترح (اوفاهي) أن الإسلام وسلالة الكيرا إنتشرا وإكتسبا النفوذ متساوقان بدارفور ، وهكذا خدم الإسلام كعامل للتماسك الإثني داخل السلطنة ، وإن كان سهلا ملاحظة أن هذا الإختراق كان ممكنا لسببين الأول هو خصوصية العلاقة التي تنشأ بين الرجل وإبن أخته أو إبنته في السياق الإجتماعي لمجتمعات الحزام السوداني عامة ومجتمعات الفور على وجه الخصوص ثم ثانياً هشاشة مجتمعات الفور بشكل إستثنائي إزاء الأثر الثقافي والروحي الوافد (الحكيم الغريب).
يمكن تصنيف دارفور كجزء من السودان الأوسط (السودان الغربي يشمل من السنغال إلى ودّاي تشاد الحالية والسودان الشرقي يشمل السودان النيلي وكردفان) ، لذا فهي تحوي طيفاً واسعا من الأعراق والأجناس. فإن كان الفور دوما هم غالب سكان هذا الإقليم ولكن كذلك فهناك المساليت إلى الجنوب الغربي من جبل مرة ، القمر للغرب من الفور وكذلك التامة في الشمال الغربي من هؤلاء الأخيرين، كذلك هناك الزغاوة بفروعهم المختلفة في الجزء الشمالي الغربي لدارفور والبرتي كشعب عظيم وكبير لا يقل كثيرا عن الفور الذين يمثلون قوام دار دالي والميدوب والبرقد العرقان اللذان يعتقد أنهما ذوي أصول نوبية نيلية، الأول بأقصى شمال دارفور والأخير إلى الشمال من جبل مرة. كذلك هناك البيقو والمراريت والداجو والتنجر. يعتقد بشكل كبير أن أثر الأسلمة والإستعراب بدارفور قد أفقد بعض هذه الأعراق لغاتها الأصلية لصالح اللغة العربية مثل البرتي والبرقد والتنجر . هناك القبائل الوافدة مؤخرا مع المجموعات العربية مثل الفلاتة والبرنو ومجموعات الفقرا من الجوامعة. أما المجموعات ذات الأهمية البالغة بدارفور في العصر الحديث فهم العرب الرحل الذين دخلوا دارفور خلال القرن الثامن عشر وهم بالترتيب من الغرب للشرق جنوب جبل مرة التعايشة ، البنى هلبة ، الفلاتة ، الهبانية ثم اخيرا الرزيقات والمعاليا وهؤلاء جميعا يصنفون كعرب بقّارة. كذلك هنالك مجموعات العرب الرحّل الابّالة الذين يقطعون بشمال دارفور في المنطقة الصحراوية وهم الزيادية والمحاميد والماهرية والعريقات ، وبالطبع المجموعات الثلاث الأخيرة يصنفون كذلك كعرب رزيقات عدا انهم يختلفون عن أخوتهم الجنوبيين كرعاة للإبل. لقد ساد قدر عال من التوتر بين مركز سلطنة الفور وبين المجموعات العربية المترحلة خصوصا البقارة الذين يقطنون جنوبا وهو طريق حملات الغزو التي تمارسها السلطنة لجلب الرقيق ، وان كانت أسباب التوتر مع مجموعات العرب الابّالة تتخفف لسببين أولهما قرب هؤلاء الأخيرين من سرير السلطنة وهو ما يلزمهم بالسلوك الحسن أما ثانيا فدمجهم في الدورة الاقتصادية لتجارة القوافل من (كوبي) إلى مصر عبر درب الأربعين كموردين لجمال القوافل مما جعلهم مستفيدين من عوائد هذا النشاط التجاري المهم. لقد عاشت في أرجاء سلطنة الفور قبائل عربية أخرى مثل دار حامد ودار حمر وإن انتقلت الأولى لكردفان لتوتر بينها والسلطان محمد الفضل ، أما الثانية فعاشت هناك لنهاية السلطنة إنطلاقا من سرير مشيختها بأم شنقة قبل إنتقال مركزها إلى النهود في فترة الحكم الثنائي..نواصل.