*مستقبل التعليم العالي في السودان : بين التحديات الراهنة وآفاق النهوض* أمية يوسف حسن أبوفداية
*مستقبل التعليم العالي في السودان : بين التحديات الراهنة وآفاق النهوض*
أمية يوسف حسن أبوفداية
باحث وخبير استراتيجي في شؤون القرن الإفريقي
القاهرة – 9 سبتمبر 2025
مقدمة
منذ تأسيس كلية غوردون التذكارية في عام 1902، والتي شكلت النواة الأولى للتعليم العالي في السودان، مرورًا بمراحل التطور والتوسع، خاصة مع “ثورة التعليم العالي” في منتصف تسعينات القرن الماضي، ظلّ التعليم العالي يمثل أحد أعمدة المشروع الوطني السوداني، وأداة رئيسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
غير أن هذا القطاع الحيوي يعيش اليوم واحدة من أحلك فتراته، نتيجة لتراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي بلغت ذروتها بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، وما تبعها من انهيار شبه كامل في منظومة الدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها الجامعات ومراكز البحث العلمي.
أولًا: جذور الأزمة وتداعياتها على منظومة التعليم العالي
1. الحرب وانهيار البنية التحتية
كشفت الحرب الأخيرة عن هشاشة البنية التحتية للتعليم العالي في السودان، خاصةً في العاصمة الخرطوم، التي كانت تحتضن أكثر من 90% من الجامعات الخاصة وعدد مقدّر من الجامعات الحكومية. فقد دُمرت أو تضررت معظم مؤسسات التعليم العالي في الخرطوم إما كليًا أو جزئيًا، وتحوّلت بعض المباني إلى ثكنات عسكرية أو مقار للنازحين.
هذا التركز الجغرافي غير المتوازن كشف عن خطأ استراتيجي كبير في التخطيط التعليمي، وجعل النظام بأكمله عرضة للانهيار في حال تعطلت العاصمة لأي سبب – وهو ما حدث بالفعل.
2. نزوح الطلاب والأساتذة
نتيجة للأوضاع الأمنية المتردية، اضطُر آلاف الطلاب إلى النزوح من مناطق النزاع إلى ولايات أخرى، أو إلى خارج السودان نحو دول الجوار (مصر، تشاد، إثيوبيا، جنوب السودان) ودول الخليج. البعض انقطع عن الدراسة نهائيًا، والبعض الآخر حاول الالتحاق بجامعات في الخارج، بحثًا عن فرص أكاديمية مستقرة.
ولم يقتصر النزوح على الطلاب فقط، بل شمل كذلك أعضاء هيئة التدريس والإداريين، الذين فقدوا وظائفهم أو قرروا الهجرة لأسباب تتعلق بالأمن أو لضيق المعيشة، في ظل تدهور رواتب العاملين في التعليم العالي وتراجع الحوافز المهنية.
3. غياب امتحانات الشهادة والطلاب الجدد
من أخطر تداعيات الحرب كان توقف امتحانات الشهادة الثانوية لفترة تجاوزت العام والنصف، ما أدى إلى غياب المورد الأساسي للجامعات – أي الطلاب الجدد – مما تسبب في ركود حاد داخل مؤسسات التعليم العالي، خصوصًا الجامعات الخاصة التي تعتمد كليًا على الرسوم الدراسية كمصدر دخل.
إضافة إلى ذلك، غاب الطلاب الأجانب – الذين يشكلون نسبة معتبرة من الطلاب في بعض الجامعات – بسبب غياب الأمن، وتوقف الخدمات، خاصة الكهرباء والإنترنت، وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في المدن السودانية.
ثانيًا: مظاهر الأزمة الأكاديمية والإدارية
1. ضعف البيئة التعليمية
قبل الحرب، كانت البيئة التعليمية تعاني أصلًا من مشاكل عميقة في البنية التحتية، والآن تفاقمت هذه المشاكل بشكل كارثي. القاعات الدراسية غير مهيأة، المكتبات مغلقة أو مدمرة، المعامل شبه معطلة، والداخلية الجامعية تفتقد لأبسط مقومات السكن اللائق.
إضافة إلى ذلك، انقطعت الكثير من الجامعات عن العملية الأكاديمية لأشهر طويلة، دون توفر البدائل الإلكترونية الفعالة، لغياب الإنترنت وضعف المنصات التعليمية الرقمية، مما عمّق الفجوة في التحصيل الأكاديمي.
2. غياب الرؤية والتنسيق
لم تظهر حتى الآن خطة وطنية واضحة من قبل الدولة أو وزارة التعليم العالي لإنقاذ القطاع، أو لتحديد آلية لاستمرار الدراسة، أو لاستيعاب الطلاب النازحين، أو لإعادة هيكلة الجامعات المتوقفة.
كما أن مؤسسات التعليم العالي الخاصة – والتي تُعتبر جزءًا من المنظومة الوطنية – لم تحظ بأي دعم أو حتى توجيه من الجهات الرسمية، مما تركها تواجه مصيرها منفردة، وأدى إلى توقف بعضها عن العمل كليًا.
ثالثًا: الهجرة الأكاديمية واستنزاف العقول
شهد السودان، خلال السنوات الأخيرة، أكبر موجة لهجرة العقول على الاطلاق، حيث غادر المئات من أعضاء هيئة التدريس الجامعيين البلاد نحو دول الخليج، وأفريقيا، وأوروبا.
أسباب الهجرة تتعدى الأمن إلى العوامل المعيشية: تدني الأجور إلى مستويات غير إنسانية، غياب الحوافز البحثية، توقف فرص التدريب والتطوير المهني، وانعدام الأمل في إصلاح قريب.
هجرة هذه النخبة الأكاديمية شكّلت استنزافًا خطيرًا لرأس المال المعرفي في السودان، وهددت استمرارية بعض الكليات، خاصة في التخصصات الدقيقة والنادرة مثل الطب والهندسة.
رابعًا: الحاجة إلى إعادة التقييم والإصلاح الجذري
لا يمكن الحديث عن مستقبل للتعليم العالي في السودان دون مراجعة شاملة وشجاعة للمسار الذي سلكه هذا القطاع منذ ثورة التعليم العالي في التسعينات وحتى اليوم.
فرغم ما تحقق من توسع كمي في أعداد الجامعات والكليات، إلا أن التوسع جاء على حساب الجودة، والكفاءة، والتوازن الجغرافي. فقد تم التصديق على جامعات وكليات لا تتوفر فيها الشروط الأكاديمية الدنيا، من حيث المباني، أو الكادر، أو المراجع، أو حتى نظام القبول والتدريس.
خامسًا : خارطة طريق لإنقاذ التعليم العالي في السودان
بناءً على ما سبق، ووفقًا لمقتضيات الواقع الجديد بعد الحرب، يمكن اقتراح خارطة طريق عملية للنهوض بالتعليم العالي، تشمل المحاور التالية:
1. دعم الجامعات الحكومية
لابد من تدخل الدولة والمجتمع الدولي لإعادة تأهيل الجامعات الحكومية المتضررة، من خلال دعم مباشر لإعادة بناء البنية التحتية (قاعات، مكتبات، شبكات، داخليات، معامل)، خاصة في الولايات المتأثرة مباشرة بالحرب.
2. رفع مخصصات العاملين في التعليم العالي
من الضروري إعادة النظر في الرواتب والمخصصات، مع تقديم حوافز مالية ومعنوية جاذبة، من أجل وقف نزيف الكفاءات، وتشجيع الأساتذة والعاملين على الاستمرار في مواقعهم.
3. رفع سن المعاش للأستاذ الجامعي إلى 70 سنة
يُعتبر الأستاذ الجامعي ثروة قومية لا تعوّض بسهولة، ورفع سن التقاعد يمنح المؤسسات فرصة الاستفادة من الخبرات المتراكمة، ويقلل من فجوة الكادر.
4. تقييم شامل للجامعات والكليات الخاصة
يجب إخضاع الجامعات الخاصة لتقييم صارم وفق معايير الجودة العالمية: عدد الأساتذة، بيئة القاعة، المناهج، فرص البحث، سكن الطلاب، وغيرها.
ويجب إلغاء تصاديق الكليات التي لا تفي بهذه الشروط، ووقف منح تراخيص جديدة إلا بعد دراسة جدوى وطنية شاملة.
5. توسيع نطاق التصديق الجامعي خارج العاصمة
لتفادي تكرار أزمة الخرطوم، ينبغي تشجيع تأسيس جامعات جديدة في الولايات، خاصة في المناطق الأقل نموًا، مع تقديم دعم حكومي وتحفيز استثماري لهذه المؤسسات.
6. التخصصات النادرة والتوجه العالمي
يجب أن تتجه الجامعات السودانية نحو تقديم تخصصات جديدة ونادرة، خاصة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، الأمن السيبراني، الاقتصاد الأخضر، والدراسات الإفريقية – وهو ما يمكن أن يمنحها ميزة تنافسية إقليمية، ويجذب طلابًا من الخارج.
خاتمة
إن مستقبل التعليم العالي في السودان مرهون بمدى قدرة الدولة والمجتمع على تحويل الأزمة إلى فرصة. فبدلًا من الاكتفاء بلوم الحرب أو التدهور الاقتصادي، يجب أن تكون هذه اللحظة فرصة لمراجعة شاملة لمسار التعليم العالي، وتصحيحه بما يتسق مع حاجة السودان إلى كوادر مؤهلة تنهض به من جديد.
إن الجامعات ليست مجرد مبانٍ وقاعات، بل هي مصانع للمعرفة ومؤسسات لإنتاج المستقبل. وإذا فقد السودان قدرته على إنتاج المعرفة، فقد يفقد مستقبله.
إن إنقاذ التعليم العالي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية.