منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

✒️ صهيب حامد آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٢١-٣٠)

0

✒️ صهيب حامد

آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٢١-٣٠)

صهيب حامد

إذن فلقد جَلوْنا في الحلقة السابقة المقاومة المستميتة التي أبدتها مجتمعات (الكيرا) للمهدية. لقد كان مخطط ثورة (أبو جميزة) أجرأ وأضخم عمل منظّم للإطاحة بالدولة المهدية إنطلاقا من دارفور ، وهو ما لا يمكن مقارنته بكل محاولات (الأشراف) الخجولة بقيادة الخليفة محمد شريف ود حامد والتي لا تعدو سوى أن تكون صراعاً حول السلطة داخل نفس المشروع بعكس مقاومة مجتمع (الكيرا) للمهدية التي إستهدفت الإطاحة بالمشروع نفسه. ورغم ذلك يقول عرّاب مفكري ومؤرخي المركز العروبي حاج حمد (أن غرب السودان قد تجمع حول المهدي بإعتباره مهدياً منتظراً وقد كان الغرب يعني جماع (الفور والمسبعات وتقلي) وهي قاعدة تتسم بحداثة إسلامها وبإنعزالها الإقليمي والجغرافي الطبيعي عن مراكز الحضارة المتوسطية ، بالإضافة لتركيبتها الإجتماعية-القبلية الأكثر تخلفاً في السودان)!!. بلا شك فلقد أصاب أستاذنا حاج حمد عمى منهجي منعه من التمييز بين البصمة الأبستميولوجية (المعرفية) لبنية عقل مجتمعات البقارة مقابل البصمة الأبستميولوجية (المعرفية) لبنية عقل مجتمع (كيرا) في نفس الحقبة. لقد قوَّل (حاج حمد) الوقائع التاريخية التي تؤكد مقاومة مجتمع (كيرا) للمهدية عكس ما جرت به المقادير في تهافت غريب ومريب ، بعكس موقف البقارة. إن موقف (كيرا) إزاء المهدية كما حكاه التاريخ يدحض كامل فرضية حاج حمد حول غرب السودان وإنعزاليته الإقليمية وحداثة إسلامه وتركيبة بنيته الإجتماعية – القبلية الأكثر تخلفاً في السودان!!!. كيف لكينونة في ضخامة أستاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد أن ترتكب مثل هذه المغالطة!!؟. إذن دعونا نحلّل ونستكنه ما أدى بحاج حمد إرتكاب عديد المغالطات!!؟.

ما الذي أدى بحاج حمد لهذا الموقف المخزي معرفياً -أي الوقوع في وحَل المغالطة الإشكالية!!؟ لقد أدّت لمعضلة المغالطة الإشكالية معضلة أكثر خطراً وهي (الإستلحاق الإستراتيجي). لقد أدّى حاج حمد مهمة تحليل البنى الإجتماعية في السودان وفق أطقم فكرية وإستراتيجية نابعة ومنتجة ضمن شروط الأنساق والأنظمة المعرفية التي تتضمنها بنىة العقل السائدة وسياقها في السودان ، بالأحرى فلقد كان المخيال القومي لحاج حمد وكافة نخبته مُنْتَجَاً و(ومستلحقاً إستراتيجياً) ضمن شروط الحكم التركي في السودان الذي إستجلب أطقمه الفكرية والإستراتيجية التي تضمن تحقيق الهدف الإستراتيجي لفتح محمد علي باشا السودان وهو خلق تراكم رأسمالي لبناء مصر العصرية. فحاج حمد حين يصف إسلام غرب السودان بالحداثة والرقة فهو يعبّر عن نحن(ه) الديني الذي يعرِّفه إسلام سُنّي كلاسيكي تراثي مدرسي (إسكولاستيكي) يحوي في بنيته مصالح الحكم التركي في السودان. ولكن ليس في مكنة حاج حمد أن يرمق الغاية البراغماتية التي حدت بسلطنة (كيرا) تبنّي إسلامٍ متساوق مع إحتياجاتها يحوي في بنيته مصالح (أبّا كوري) وشعبه كما حوى إسلام الأتراك مصالح محمد علي وشعبه ، وكذلك لا يمكنه التسامح معه ولا مع إحتياجاته التاريخية لأنه مسكون بوهم أيديولوجي إسمه النزوع المتوسطي ومراكزه الحضارية التي حدت بالمركز الحضري لسودان وادي النيل الإنفتاح عروبياً. فإذا ما كان حاج حمد يقصد حين يقول أن تركيبة غرب السودان الإجتماعية القبلية هي الأكثر تخلفاً ، أقول يقصد بذلك مجتمع (كيرا) فهو إذن يصادر على المطلوب خصوصاً وأن هذا الأخير (مجتمع كيرا) قد أسقط بالفنية القاضية (الفونج) في كردفان وأخرجهم منها في ١٧٨٥م ، وسيطر على الإقليم المهم إلى دخول الأتراك السودان. لقد هزم مجتمع (كيرا) الذي كان يستدمج وعيا برجوازياً الفونج الذين إستدمجوا حينها وعياً تناسلياً. إذن فكيف (للعبدلاب) الذين دانوا بالولاء لبنية وعي تناسلي مهزوم حينها أن يتجاوزوا الكيرا ذوي الوعي البرجوازي المنتصر ، وكل ذلك خلال ستين عاما فقط!!؟. ليس ذلك فحسب بل وقد صارت كذلك تركيبة بنيتهم (أي المركز العروبي الذي صاره العبدلاب) الإجتماعية-القبلية أكثر تقدماً وأن أسلامهم أكثر رسوخا وعراقة مقابل إسلام غرب السودان الأكثر حداثة ورقة!!!. بالطبع لا يحدث هذا إلّا وفق إستيهام رغائبي له مصلحة في أن يصبح مجتمع (كيرا) الأكثر تخلفاً حتف أنفه لأسباب آيديولوجية وليس وفق حقائق الواقع والتاريخ.. مالكم كيف تحكمون!!.

حسناً..بمعزل من الإستيهام الرغائبي للأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد ، فإن التشكيلة الإجتماعية للمهدية في أغلبها تأسست على قبائل البقارة إلى جانب نخبة قوامها ممن أطلق عليهم (الأشراف) وهم أقارب (المهدي) من الدناقلة. وليس عسيرا إستكناه الإطار الثقافي الإجتماعي (للإشراف) فهم ضمن المجموعات المستعربة (رغم أصولهم النوبية) المدمجين تواً داخل المدينة الاستعمارية الجديدة (الخرطوم) والتي تأسست في عشرينيات القرن التاسع عشر. رجوعاً لمحمد محمد سيد أحمد في كتابه النادر (تاريخ مدينة الخرطوم في العهد المصري) فإن مجموعات الدناقلة المستعربين هم مجموعات سكنت حي (المراكبية) بالخرطوم إستجلبها محمد خير الأورباوي من أهله للعمل في المراكب والوابورات التي تخصصت في نقل الرقيق من مشرع الرق بالنيل الأبيض بعد نقلهم إليه من بحر الغزال وغيرها ، وقد إستقر معظمهم بالخرطوم أبتداءا من أربعينيات القرن التاسع عشر وصاعداً وهو ما يتساوق مع ميلاد محمد أحمد المهدي بشمال أم درمان الحالية في ١٨٤٤م. أما المجموعة الأخطر في البنية الإجتماعية لدولة المهدية فهي مجموعات البقارة التي شكّلت قوام الراية الزرقاء والتي كانت تمثل ٩٠٪من جيش المهدي. لقد تفادى (حاج حمد) تناول البقَّارة بالإسم في ثنايا تحليله للقوى الإجتماعية لغرب السودان لأسباب آيديولوجية سوف نسهب فيها فيما بعد ولكنه أغرق التحليل متحدثاً عن تشكيلة فسيفسائية أسماها بالتركيبة الإجتماعية القبلية لغرب السودان التي تعد الأكثر تخلفاً (!!!) ، ومن ثم كي يشطح متحدثاً عن قوي غرب السودان التي أيدت المهدية والتي تتكون من جماع (الفور والمسبعات وتقلي) رغم أن أغلب هذه المجتمعات لم تؤيد المهدية ولم تألوا جهدا في مناهضتها إلى سقوطها!!!!.

البقارة أصولهم من جهينة كما يتفق المؤرخون ورواية البقارة أنفسهم عن نسبتهم. يقول إبن الأثير أنه في ١٠٥٠م أوقف المعز بن باديس الدعاء في المنابر بالقيروان للخليفة الفاطمي (المستنير) وكذلك منع ترديد عبارة (حي على خير العمل) من على الآذان وهو دلالة بإعلان خروجه عن الدولة الفاطمية ومذهبها الشيعي الإسماعيلي وإتّباعه المذهب السني المالكي. وكرد فعل لهذا التمرد أجاز الخليفة (المستنصر) لعرب بني هلال وبني سليم وبني جشم تجاوز النيل في تغريبة كانت لها آثار تاريخية لم تزل تتفاعل محددة ملامح تطور الدول والمجتمعات في أفريقيا جنوب وشمال الصحراء. يذكر إبن خلدون في (المبتدأ والخبر) إنه إنما عمل الخليفة (المستنصر) بنصيحة وزيره بإرسال هؤلاء البدو دون إرسال جيش نظامي لما عرفوا به من شدة المراس والإغارة على الضواحي وإفساد السابلة. لقد دخل في هذه (التغريبة) خلق كثير إلى جانب بني هلال كبني سليم وجهينة وجذام وبنو قيس. بكلمات د. الدرديري محمد أحمد فلقد يممت هذه المجموعات صوب تونس وشهدوا معركة القيروان في ١٠٥٨م التي إستعصت أسوارها على الرومان لأربعة قرون فتركوها بعد ذلك خراباً صفصفاً. بعدها رجع أغلبهم بصعيد مصر ونجد والعراق حاملين ما غنموه من القيروان من ذهب وأموال. لقد راجت القصص عن كيف أدّى ورود هذه الغنائم لأسواق القاهرة إلى تدني الأسعار. يقول د. الدرديري محمد أحمد في مقاله عن عرب الشتات (أمّا جهينة فقد قصدت إلى حوض بحيرة تشاد لتبلغه في حوالي ١٤٦٠م.وبعد (حادثة الناقة) انتقل جزء من هذه القبائل نحو الجزء الجنوبي الشرقي ليدخل الحزام المطير في دارفور وكردفان ، بينما بقي آخرون في حوض بحيرة تشاد أو يمموا مع نهر شاري غرباً تلقاء ما يعرف الآن بالنيجر ومالي وما ورائها). وبينما إهتم د. الدرديري محمد أحمد بالأخيرين ، ولكننا سوف ينصب إهتمامنا بالأوائل من جهينة الذين دخلوا السودان حيث يؤرخ أوفاهي دخولهم في بداية القرن الثامن عشر إبان حكم (الكيرا) في دارفور. لقد سموا في السودان بالبقَّارة وشملوا من الغرب بمحازاة (دار سلا) إلى الشرق كل من التعايشة ثم البنى هلبة إلى الشمال قليلا ثم الهبانية ثم الرزيقات ثم المسيرية ثم الحوازمة ثم اولاد حميد ثم السليم على النيل الأبيض. يتخلل هذه المجموعات بعض من فزارة (كالمعاليا) مخالطين الرزيقات والفلاتة تلس. إذن البقارة في السودان يمتدون في حزام أُسْمي فيما بعد في السودان بحزام التماس الذي يمتد حرفياً من بحيرة تشاد إلى النيل الابيض.. نواصل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.