منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

✒️ صهيب حامد آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٢٢-٣٠)

0

✒️ صهيب حامد

آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٢٢-٣٠)

صهيب حامد

حسناً..إذن وتلخيصاً للحلقة الفائتة فلقد كانت المهدية قاعدة حكم تأسّست على تحالف إجتماعي بين البقَّارة و(الأشراف). وفي إطار المقاربة (البنيوية) التي إستثمرنا فيها عبر هذه الدراسة ، فإن أي قاعدة سلطة تتأسس على شروط (التبادلية). فحسب ليفي ستراوس في (البنى الأولية للقرابة) فإن التبادلية نفسها تفترض مستويين ، مستوى التلقي ومستوى العطاء. وها هنا فسوف لن نعتد بالرأي القائل بأن الخليفة عبد الله هو صانع المهدية فهذه إستيهامات آيديولوجية تصادر على المطلوب!!. فكل المؤشرات والقرائن الظرفية تؤكد أن محمد أحمد المهدي هو مركز هذا (التَمَهْدِي) خصوصا بعد قرينة (الخطاب) الذي كشفت عنه فيفيان ياجي في كتابها المهم (رجال حول المهدي) المرسل من محمد أحمد المهدي للفكي محمد ود تورشين (والد الخليفة) – بعد إنتقاله لدار الجمع بطلب من عساكر أبو كلام- طالباً فيه منحه الإذن لزيارته أو أن يكون شيخ محمد هو الزائر إن لم يكن لديه طارئ يمنعه. فمذ أن صار المهدي (خليفةً) للشيخ قرشي ود الزين تزايدت إتصالاته بشيوخ الطريقة السمانية ومنهم والد الخليفة عبد الله. ولكن تدخل القدر بوفاة هذا الأخير (بأبو ركبة) ، وحسب (ياجي) إلتمس يعقوب فيما بعد لدى أخيه الاصغر الذهاب لهذا الرجل في الجزيرة أبا مستفسراً سبب طلبه أبيهم ، فعلم (عبد الله) أنه (بطيبة) فلحقه حيث لا ندري ما دار بين الرجلين على وجه الدقة ، ولكن ما يعلمنا له التاريخ بعد هذا اللقاء أنهما قد تواثقا على أمر (المهدية) وفق الأدوار التي لعباها على مسرح الأحداث فيما بعد. إذن فإذا كانت المبادرة وفق (ياجي) من المهدي للقاء والد الخليفة إذن فسوف نضعه في تحليلنا موضع المُعْطِي ونضع عبد الله محمد ود تورشين في موضع المُتَلَقي ذلك على المستوى الأول (مستوى السلطة) ، كذلك فإنه (أي المهدي) فيصبح متلقياً عطاء عبد الله ود محمد تورشين ممثلاً البقَّارة (مستوى البيعة).

يقول هولت في (المهدية في السودان) أنه بعد إسبوع من سقوط الأبيض أصدر المهدي منشوره الشهير الذي سمّى فيه لأول مرة عبد الله ود تورشين خليفةً (أما بعد أعلموا أيها الاحباب أن الخليفة عبد الله خليفة الصديق المقلَد بقلائد الصدق والتصديق ، فهو خليفة الخلفاء وأمير جيش المهدية المشار إليه في الحضرة النوبية.. فحيث علمتم ذلك يا أحبابي أن الخليفة عبد الله هو مني وأنا منه وقد أشار إليه سيد الوجود (صلعم) فتأدبوا معه كتأدبكم معي ، فجميع ما يفعله بأمر النبي المصطفى (ص) لا بمجرد إجتهاد منه ولا هو عن هوى بل هو نائب عنه قي تنفيذ أمره (ص) … وأعلموا أن قضاءه منكم هو قضاء رسول الله (ص)… وأعلموا أن جميع أفعاله وأحكامه محمولة على الصواب لأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب ولو كان حكمه على قتل نفس منكم أو سلب أموالكم فلا تعترضوا عليه فقد حكّمه الله فيكم بذلك ليطهركم ويزكيكم من خبائث الدنيا لتصفى قلوبكم وتقبلوا إلى ربكم ومن تكلم في حقه ولو بالكلام النفسي جزماً فقد خسر الدنيا والآخرة…من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ومصدقاً بمهديتي فليسلم للخليفة عبد الله ظاهراً وباطناً وإذا رأيتم منه أمراً مخالفاً في الظاهر فأحملوه على التفويض بعلم الله والتأويل الحسن…وأن الخليفة هو قائد المسلمين وخليفتنا النائب عنا في جميع أمور الدين وإياكم والوسوسة في حقه وظن السوء وعدم الإمتثال في قوله والمشاجرة له ولأحكامه والخلاف والحسد فتوبوا إلى الله… فمن تاب تاب الله عليه ومن عاد فينتقم الله منه وسلّطه عليه وهذا أمر الله ورسوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم والسلام). لقد أثْبَتنا هذا النص على طوله لأهميته البالغة في تقنين وضع الخليفة عبد الله بنصوص لا تقبل التأويل ، إذ يقول هولت أن أهمية هذه الوثيقة تكمن في وصفها عبد الله أنه خليفة المهدي لأول مرة وفُهم هذا من مدلول العبارة التي جاء فيها وهو نائبنا في جميع شئون الدين. إذن هنا فقد أوفى (أي المهدي) كيله في المستوى الأول (العطاء السلطوي) للخليفة بعد أن وفى البقَّارة عطائهم الذي تلقاه المهدي في المستوى الثاني (مستوى البيعة) بعد جهدهم ودورهم الكبير في سقوط (الأبيض) ، وهو ما أوفى ميزان قاعدة التبادلية القائمة على التلقِّي والعطاء.

إذن وفق أعلاه فالخضوع ذاته تبادلي ، إذ أن الأولوية التي حصل عليها محمد أحمد (المهدي) بخضوع عبد الله التعايشي كرمزية لإيمان البقَّارة به قد خسرها فى مستوى آخر لصالح عبدالله ود تورشين في تنازله عن بعض سلطته (أي المهدي) والمتمثل في نص تقنين وضع عبد الله كخليفة له في أمور الدين والدنيا. ثمة ملاحظة أخرى في غاية الأهمية ، فالناس في سودان ذلك الوقت من القرن التاسع عشر كانوا بحاجة لقائد يخلّصهم من الحالة المزرية التي كانوا يعيشون فيها. ولكن يتضح أن الزعيم ممثلا في شخص المهدي لم ينبثق بإعتباره إستجابة مباشرة لحاجة هذه الجماهير ، وهو كذلك لا يتشكل (أي الزعيم) وفق مزاج أفقها (أي الجماهير) ، بل الأحري تتشكل الجماعة وفق أُفق هذا الزعيم وتستمد شخصيتها منه. فالأحرى أن القيادة هي (دَين معنى) تؤديه الجماهير لصالح الزعيم ، لأنه (أي الزعيم) لا يتصدى لمهمته التاريخية لمجرد إحتياج الناس له بل يفعل ذلك لأنه يستمتع بالمكانة التي تمنحها له الزعامة لذاتها ويشعر بجاذبية قوية نحو المسؤولية حيث يأتي له عبء الأمور العامة بمكافأته الخاصة!. لذلك فإن الكاريزما التي تنبثق من موهبة الزعامة تخلق ممنونية من الجماهير صوب الزعيم ليس لأنه منح الناس قيمة مادية بل هنا التبادل يكون رمزياً محضاً.. الإنجذاب والكارزما تجعل الجماهير تمنح الزعيم التوافق ، وكلما قدحت موهبة الزعامة بشدة كلما قدحت الجماهير موافقتها للزعيم لذا يقول ليفي ستراوس أن التوافق هو حد وأصل الزعامة ، التوافق هي الأساس النفسي للزعامة ولكنه يعبر عن نفسه في الحياة اليومية ويقاس بلعبة الأخذ والعطاء التي يلعبها الزعيم وأتباعه ، الأخذ والعطاء بشقيه المادي والرمزي والمتجسد في مفهوم التبادلية.هنا ينقشع أفق حيرتنا التاريخية ، فمنشور المهدي التأسيسي لخلافة عبد الله قد كانت وثيقة تبادلية بين المهدي والخليفة ومن ورائهما قاعدتهما الإجتماعية (البقَّارة والأشراف) ، وهو ما جعل سائغاً للأنصار قتل الخليفة لأكبر منافسيه (المنّا إسماعيل زعيم الجوامعة وعجيل الجنقاوي زعيم الرزيقات) برضا تام من الأنصار والمهدي هذا الأخير الذي جيَّر كامل كارزمته لتمرير هذا الحدث الدنيوي الناتج عن التنافس كقدر ديني يجب التسليم له!!.

ولكن فقدت القيمة التبادلية التي تأسست عليها قاعدة الحكم في المهدية قيمتها بعد موت المهدي لأنها في أغلبها كانت قيمة رمزية دانت بمديونية المعنى في جانبها الأكبر للكاريزما المهدوية في بعدها الشخصي ، لذا فبموت (المهدي) فقدت هذه القاعدة مضمونها التوافقي الذي كان منحة خالصة لكاريزما المهدي في ذاته وليس أي شخص آخر ، وهنا نازع الأشراف الخليفة عبد الله في سلطته الخالصة التي إستحقها من ليل الأسى ومر الذكريات. وليس ذلك فحسب بل حتى البقَّارة أنفسهم الذين ترمّز الخليفة عبد الله بإسمهم ناصبوه العداء وهي معضلة لم يتجاوزها الخليفة عبد الله إلا بإقامة قاعدة للتبادلية مادية الطابع مع إستخدام حقه الشرعي في العنف لمدى ليس له نظير في التاريخ الذي قبله أو الذي بعده!!.لقد تقلصت مساحة التوافق على قاعدة الحكم في الدولة المهدية لأنه بموت (المهدي) قلّت القدرة التلاعبية ( Universal Manipulation ) للزعيم (المهدي) الذي كان يمثل بنية وعي برجوازي ذات البصمة المعرفية الأوسع المستوعبة للبصمة المعرفية لبنية البقَّارة ذات الوعي التناسلي ، فالبنية التناسلية ذات بصمة معرفية غيبية تفترض أن الخلاص يجب أن يحدث من الخارج وهو سبب إستسلامها الروحي للمهدي ..الخارج الجغرافي أو الكوني!!. ولكن بالمقابل فليس بوسع الإطار الثقافي الإجتماعي لبنية الوعي التناسلي (البقَّارة) أن تستوعب وتسترضي بنية وعي برجوازي (مجتمع البحر) لأنه يفترض أن الخلاص بالدرجة الأولى هو عملية تراكمية مادية ذاتية برنامج عطائها لا يفيض . وهكذا إنفجر الصراع بعد وفاة المهدي وتقلصت مساحة التوافق تدريجياً إلى أن لقت المهدية حتفها في ١٨٩٨م حتى قبل أن تكمل عشريتها الثانية.. نواصل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.