لابد من لاهاي وإن عزٌ النصير سلسلة مقالات…. عمر مختار حاج النور الحلقة الرابعة: *ورقة التحفظ.. هل تعطل مسار العدالة؟*
لابد من لاهاي وإن عزٌ النصير
سلسلة مقالات….
عمر مختار حاج النور
الحلقة الرابعة: *ورقة التحفظ.. هل تعطل مسار العدالة؟*
في ردها الرسمي على دعوى السودان أمام محكمة العدل الدولية، دفعت دولة الإمارات العربية المتحدة بورقة تحفظها القانوني على المادة التاسعة من إتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. حيث أن الإمارات كانت قد أبدت تحفظاً على هذه المادة تحديداً عند انضمامها الرسمي إلى الإتفاقية في العام 2005. وتنص المادة التاسعة من الاتفاقية -المتحفظ عليها صراحةً من قبل دولة الإمارات- على الآتي:
“تعرض على محكمة العدل الدولية بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات بين الأطراف المتعاقدة والخاصة بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك تلك المتعلقة بمسؤولية دولة ما عن الإبادة الجماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة.”
بالتالي، فإن تحفظ دولة الإمارات العربية المتحدة الصريح والواضح على هذه المادة الحيوية يعني أنها لا تقبل ولاية محكمة العدل الدولية للنظر في أي نزاعات قانونية قد تنشأ بينها وبين الدول الأخرى الأطراف في الاتفاقية بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الإتفاقية، ويشمل ذلك بشكل مباشر الإدعاءات الخطيرة المتعلقة بمسؤوليتها عن جريمة الإبادة الجماعية أو أياً من الأفعال الأخرى المحظورة بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية.
هذا التحفظ القانوني هو الأساس الرئيسي الذي إستندت إليه دولة الإمارات العربية المتحدة في دفعها بعدم إختصاص محكمة العدل الدولية للنظر في الدعوى القضائية المرفوعة ضدها من قبل السودان، مما يعني أن الإمارات ترى بشكل قاطع عدم وجود ولاية قانونية لمحكمة العدل الدولية للنظر في الدعوى المقدمة من السودان، بناءً على هذا التحفظ الذي تعتبره ساري المفعول ومانعاً لولاية المحكمة.
دون أن نجزم بترجيح أي من الإحتمالين المتوقعين لقرار محكمة العدل الدولية الحاسم -سواء كان الرفض أو القبول- نشير إلى أن محكمة العدل الدولية تبني قراراتها على أسس قانونية راسخة ومتينة، مستهديةً بنصوص القانون الدولي للمعاهدات وقواعد عمل المحكمة المستقرة وسوابقها القضائية.
عليه، إذا رفضت المحكمة دفع الإمارات بالتحفظ، فمن المرجح أنها إستندت في قرارها إلى الأسس القانونية التالية:
أولاً: عدم جواز التحفظ لمخالفته الصريحة لموضوع وهدف الإتفاقية الأساسي. فقد ترى المحكمة أن التحفظ على المادة التاسعة الهامة يتعارض بشكل جوهري مع الموضوع والهدف الأساسي لإتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وهو ضمان منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية البشعة، وقد تعتبر المحكمة أن آلية تسوية النزاعات المنصوص عليها بوضوح في المادة التاسعة جزء لا يتجزأ من فعالية الإتفاقية وتحقيق أهدافها.
ثانياً: الطبيعة الآمرة لقواعد منع الإبادة الجماعية في القانون الدولي العام:
قد يجادل السودان بقوة بأن قواعد منع الإبادة الجماعية لها طبيعة آمرة وملزمة في القانون الدولي، وبالتالي لا يجوز لأي دولة التحفظ على الآليات القانونية لإنفاذ هذه القواعد الأساسية، بما في ذلك ولاية محكمة العدل الدولية في هذا الشأن. (تجدر الإشارة إلى أن هذا الأساس قد يكون محل جدل قانوني كبير بين الفقهاء والقانونيين الدوليين).
ثالثاً: التضييق في تفسير التحفظ دولة الإمارات: قد تقوم المحكمة بتفسير تحفظ الإمارات تفسيراً ضيقاً ومحدوداً بحيث لا يغطي النزاع القانوني الحالي أو جوانب معينة منه.
رابعاً: وجود إعتراض ذي أثر قانوني على التحفظ: إذا تمكن السودان من إثبات وجود إعتراض واضح ومحدد من قبله أو من دولة أخرى ذات صلة على تحفظ الإمارات، وكان لهذا الإعتراض أثر قانوني معترف به (مثل رفض قيام علاقة تعاقدية كاملة بين الدولة المعترضة والإمارات فيما يتعلق بالإتفاقية)، فقد يؤثر ذلك بشكل كبير على حجية التحفظ في مواجهة السودان أو تلك الدولة المعترضة.
خامساً: إعتبارات التطور اللاحق في القانون الدولي والممارسات المستقرة:
قد تستند المحكمة في قرارها إلى تطورات لاحقة في القانون الدولي للمعاهدات أو في الفهم الحديث لطبيعة الإتفاقيات المتعلقة بالجرائم الدولية التي تحد من جواز التحفظات على آليات إنفاذها، خاصة فيما يتعلق بالحقوق الأساسية التي لايجوز المساس بها.
هنالك العديد من السوابق القضائية، رفضت فيها محكمة العدل الدولية الدفع بالتحفظ إستنادا ً إلى واحد أو أكثر من الأسباب المذكورة أعلاه.
أما في حالة قبول المحكمة لدفع الإمارات بعدم خضوعها لولاية المحكمة استناداً إلى تحفظها، فمن المرجح أن تستند في قرارها إلى الأسس القانونية التالية: أولاً: مبدأ رضا الدول: يعتبر رضا الدول أساس الالتزام بالمعاهدات والقضاء الدولي، حيث لا تخضع الدولة لولاية محكمة العدل الدولية إلا بموافقتها الصريحة. والتحفظ هو وسيلة قانونية تعبر بها الدولة عن حدود موافقتها على الإلتزام بالمعاهدة، بما في ذلك الموافقة على ولاية المحكمة.
ثانياً: المادة 2 (1) (د) من إتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التي تعرف التحفظ بأنه “إعلان إنفرادي تصدره دولة ما عند توقيعها أو تصديقها أو قبولها أو إقرارها لمعاهدة ما أو إنضمامها إليها، تستهدف به إستبعاد أو تعديل الأثر القانوني لأحكام معينة في المعاهدة في تطبيقها على تلك الدولة”.
ثالثاً: المادة 21 من إتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التي تنص بوضوح على أن التحفظ الذي يتم قبوله من قبل دولة أخرى طرفاً في المعاهدة يعدل الأحكام التي يشير إليها التحفظ في علاقات الدولة المتحفظة مع تلك الدولة الأخرى بالقدر الذي ينص عليه التحفظ.
رابعاً: تطبيق التحفظ بشكل مباشر على ولاية المحكمة:
حيث تعتبر المادة التاسعة من إتفاقية منع الإبادة الجماعية بنداً يتعلق تحديداً بولاية محكمة العدل الدولية. وبالتالي، فإن تحفظاً يستبعد هذه المادة يعني أن الدولة المتحفظة لم توافق على إخضاع نزاعاتها المتعلقة بتفسير أو تطبيق أو تنفيذ الاتفاقية لولاية المحكمة. خامساً: عدم وجود إعتراض ذي أثر قانوني من قبل السودان أو أي دولة أخرى طرفاً في الاتفاقية على تحفظ الإمارات على المادة التاسعة بإعتراض واضح ومحدد يرفض قيام علاقة تعاقدية بينهما فيما يتعلق بالاتفاقية ككل، وفي هذه الحالة، يعتبر التحفظ مقبولاً ضمنياً على الأقل في العلاقة الثنائية بين الإمارات وتلك الدول التي لم تعترض عليه بشكل قانوني سليم.
أخيرا نشير إلى أن قبول المحكمة لدفع الإمارات بالتحفظ سيترتب عليه توقف المحكمة عن السير قدماً في نظر الدعوى لعدم وجود أساس لولايتها القضائية على الدعوى المرفوعة من السودان ضد الإمارات، وعندها يكون توقف المحكمة عن السير في الدعوى مستنداً على أسباب شكلية إجرائية لا تمس جوهر الدعوى وموضوعها، ولا يؤثر توقفها على الشكوى من الناحية الموضوعية أو على الحقائق والإدعاءآت التي قدمها السودان.
أما بالنسبة للسودان ففي حالة قبول دفع الإمارات بالتحفظ، هنالك عدة خطوات قانونية وسياسية يمكن للسودان إتخاذها في هذه الحالة وهي:
أولاً: إستئناف القرار الصادر من المحكمة بقبول الدفع بالتحفظ: متاح أمام السودان تقديم إستئناف لهذا القرار على الرغم من أن فرص نجاح مثل هذه الإستئنافات قد تكون محدودة نظراً لطبيعة قرارات المحكمة. ثانياً: التركيز على أسس ولاية أخرى للمحكمة إن وجدت (مثل الإعلانات الإختيارية للولاية القضائية):
في هذه الحالة يمكن للسودان أن يحاول إعادة صياغة دعواه أو تقديم طلب جديد يستند إلى هذا الأساس القانوني البديل.
ثالثاً: التوجه إلى آليات دولية أخرى غير محكمة العدل الدولية لمساءلة الإمارات عن أفعالها:
مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو آليات حقوق الإنسان الدولية المختلفة.
رابعاً: الإستمرار في توثيق الجرائم وجمع الأدلة والبينات القوية. حتى في حال عدم التمكن من السير في مقاضاة دولة الإمارات أمام محكمة العدل الدولية في الوقت الحالي، فإن الإستمرار في توثيق الجرائم المرتكبة وجمع الأدلة والبينات الدامغة يظل أمراً بالغ الأهمية لإمكانية محاسبة المسؤولين في المستقبل أمام محاكم أخرى، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية إذا توفرت لها الولاية القضائية على الأفراد المتورطين في جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الدولية الأخرى.