منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

عوض الله نواي *خذوا حصّتكم من دمنا*

0

عوض الله نواي

*خذوا حصّتكم من دمنا*

في جريجخ، لم تكن البنادق وحدها تتكلم، بل الجراح. وفي أم سيّالة، حين ذبل الزرع وشحّ الماء، ظل الرجال يحرسون الصمت كما لو كان سلاحًا. في أم قرفة، خرجت النسوة من البيوت دون رايات، لكن بقلوب لا تُقهَر.
هذا وطن لا تُقاس خرائطه بخطوط الطول، بل بنبض أهله. ولا تُرسم معاركه على الورق، بل على جلود الصابرين.
خذوا حصّتكم من دمنا… وانصرفوا.

لم يبقَ في أجسادنا متّسع لطعنة جديدة. توزّع الوطن بين مقصلة المرتزقة، ومخالب التدخلات، وصمت العالم الذي يحصي جثثنا في تقارير لا تهتزّ لجوعنا، ولا لدمعة أمّ فقدت أبناءها في محاور متفرقة. خذوا حصّتكم كما تفعلون دائمًا: خذوها لتُجيزوا بها قرارًا جديدًا في مجلس الأمن، أو لتسوّغوا بها دعوى حقوقية، أو لتموّهوا بها صفقة سلاح. خذوها، ثم عودوا إلى صالاتكم الباردة، ترسمون لنا حدود الموت على خرائط مطبوعة في مكاتب مرتّبة.

من الذي قال إن الدم لا يُوزَّع؟ إنه الآن يُعبّأ في براميل النفط، ويُقايض به على طاولات السياسة، ويُستغل في تبرير كل خيانة. أنتم لم تأتوا إلينا لإنقاذنا، بل لتتقاسموا ما تبقّى منّا.

سون تزو قال: إذا عرفت عدوك وعرفت نفسك، فلن تخشَ مئة معركة. ونحن نعرف عدونا جيّدًا، نعرف أنه لا يملك أرضًا، ولا سماءً، ولا وجدانًا، وأنه لم يأتِ ليبني، بل ليقتلع. لكننا نعرف أنفسنا أكثر. نعرف ماذا يعني أن تولد في جريجخ وتموت في أم سيّالة، أن تحفر خندقًا بيديك لتدافع عن قريتك، أن تُهزَم مرة وتقاتل عشرًا، أن تبني بيتًا ثم تحرسه بعيون الساهرين.

نحن نقاتل في الخوي والدبيبات والفاشر، لكن الطائرات لا تُحلّق من ترابنا. والذخائر لا تُصنّع في كرري. والمخططات لا تُرسم في عطبرة. فمن يشعل النار إذًا، ويترك لنا لعنات الرماد؟ من يبارك للمجرمين كفّهم الملطّخ، ثم يطلب منّا أن نغسل الجراح وحدنا؟

وما أشدّ نفاق العالم حين يتّهم الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية، بينما يصمت عن صور الذخائر الأمريكية التي ضُبطت في صالحة، وعن حُطام المسيّرات فوق رؤوس المدنيين، وعن مئات القرى التي مسحتها المليشيا المدعومة علنًا من أطراف إقليمية وأجنبية. إن من يصمت عن الجريمة، ويخترع جريمة وهمية، لا يبحث عن العدالة، بل عن غطاء جديد لذبح الحقيقة.

قال سون تزو: أفضل الانتصارات هي التي تتحقق دون قتال. وقد عرفت المدن السودانية هذا الدرس قبله بقرون. حين أغلقت أبوابها في وجوه المليشيا، وقدّمت الرفض سلاحًا، والإضراب مقاومة، والانتماء بوصلة، حينها انتصرت دون طلقة.

لا تعرف هذه البلاد أن تنكسر، حتى لو اجتمع العالم كله على كسر عظامها. سقطت مدن، نعم، لكن الأرواح ما تزال صلبة. هرب بعض، نعم، لكن بقي من يعرف الأرض باسمها القديم. سُرقت الدهشة من عيون الأطفال، لكن الشجر ما زال يحلم بالمطر.

خذوا حصّتكم من دمنا، لكن لا تظنوا أن الحكاية انتهت. ففي الجنوب رجال يجهّزون الزحف، وفي الغرب مقاتلون لا يرجفون، وفي القلب ملايين يعرفون أن الحقّ لا يُمنح، بل يُنتزع من بين الأنياب.

سون تزو كتب: اجعل نفسك لا تُقهر، ثم انتظر سقوط عدوك. ونحن لا ننتظر شيئًا منكم، لأننا، في الحقيقة، لم نُهزم بعد.

لا تكتبوا نهايتنا بأقلام لا تعرف أصواتنا، ولا تشيّدوا لنا قبورًا من الأكاذيب. سنموت واقفين إن اضطررنا، لكن موتنا لن يكون لكم انتصارًا. لأننا ببساطة نعرف كيف نعود من الرماد.

خذوا حصّتكم من دمنا… وانصرفوا.
أما نحن، فسنأخذ الباقي ونصنع منه وطنًا. وحتى إن انشغلتم غدًا بصواريخ خاركيف ودبابات دونيتسك، وعدتم تهلّلون لجندي أوكراني يقف على الثلج، فاعلموا أن في أم سيّالة دمًا لم يجف، وفي دار الريح مقاتلًا لم ينم، وفي السودان حربًا بلا شهود، لكنها مليئة بالوجوه التي تعرف النصر حين تراه.

نحن لا نطلب تعاطفكم. نحن نطلب أن تبتعدوا فقط.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.