بروف. أبشر :حسين محمد يكتب *في شارع عباس العقاد… والذكريات*
بروف. أبشر :حسين محمد يكتب
*في شارع عباس العقاد… والذكريات*
كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساءً، وأنا أمشي في شارع عباس العقاد، أحد أجمل شوارع القاهرة وأكثرها صخبًا بالحياة. كان الليل ينثر أضواءه على الأرصفة، والسيارات تمضي في تدفقها الهادئ، أما أنا، فكنت شاردًا، أردد في سري كلمات قصيدة قديمة للأستاذ التجاني سعيد، قصيدة سكنت قلبي منذ زمن:
“كان اسمي يرقد قرب اسمها بالضرورة
كالسلب والإيجاب
والربح والخسارة
والضحك والبكاء
والموت والميلاد
هكذا كان اسمي يرقد قرب اسمها بالضرورة…”
وأكملت من الذاكرة، ما بقي منها:
“وذات صباح رأيتها
تنقضُّ من أصلي أصلها
غارقةً حتى أذنيها في نهر الاكتفاء الذاتي
تاركةً نغيضها الذي ليس له نغيض…”
أعترف أنني قد نسيت بعض المفردات، وربما خلطت بعض الكلمات، فعذرًا لذلك.
وأنا أدندن بهذه الأبيات، حملتني الذاكرة بعيدًا، إلى أيام الشباب في الهاشماب، حيث كنت أسكن مع صديقي عباس حسن عباس، في بيت عمه خالد. كنا مجموعة صغيرة من الأصدقاء: فرانسوا عزيز إيليا، أزهري أحمد طه (رحمة الله عليه)، وأنا.
كان عباس مميزًا…
يمتلك تلك القدرة الفريدة على الغوص في أعماق القصائد وتحليلها كأنه يعيد كتابتها من جديد، يتنقل بين النصوص كما يتنقل العازف بين نغمات العود، يخلط قصيدة بأخرى، يكتشف علاقات خفية بين النصوص وكأنها أسرار مكتوبة بلغة لا يقرؤها إلا هو.
كان يحب أن “يُقمص” القصائد – كما كان يقول – فيخرج من قصيدة التجاني التي تتحدث عن دمعة من عين ورصاصة من الأخرى، إلى نص آخر يتحدث فيه التجاني عن الدمع الذي يطفئ الحريق والرصاصة التي تحرق الحقل.
رمزية التجاني كانت تحمل معاني فلسفية عميقة، وكان عباس يعشق فك طلاسمها، أما أنا، فكنت أقف أحيانًا أمام هذه النصوص كمن يقف أمام باب موصد، لا يملك مفتاحه… فألجأ لعباس، الذي كان يملك دائمًا مفاتيح كثيرة.
عباس كان أيضًا من أقرب الناس إلى الشاعر الكبير محمد طه القدال.
عشنا معًا لفترات طويلة في بيت النمل، مرة في حي الضباط، وأخرى في الموردة.
كنت أستعين بعباس لفهم قصائد القدال، خاصة تلك التي كان فيها الكثير من الرمزية والصور الشعرية الكثيفة.
أذكر جيدًا تلك الليلة التي قضيناها مع القدال وعبد المنعم رحمة الله قرب بنك فيصل، بعد جدال طويل مع أسامة سالم في بيت النمل…
جلسنا على الرصيف، وكانت المدينة قد هدأت، والأنوار خافتة، حين بدأ القدال يقرأ علينا قصيدته:
“مسدار أبو السرة لليانكي”.
كانت قصيدة متدفقة، مشحونة بالصور والرموز، وكان وجه عباس يتغير مع كل بيت، يتفاعل، يشرح، يضحك، يسخر، حتى وصل إلى الجزء الذي يقول فيه القدال:
“نحن أولاد قدامى، قاصدين اللعب السامي…
لعب العسكر وحرامي…”
ثم صرخ:
“ما فرقت يا ناس أحمد
ما فرقت يا ناس سامي…”
عباس كان يغوص في أعماق النصوص، يستخدم أدوات النقد وكأنها مفاتيح سحرية، يحلل تصوير القدال للجهادية:
“حلبنا ليهم سمسم والسمسم ما كفاهم، جبنالن سعيه…”
ويقف عند وصف الخليفة عبد الله:
“بطنك كرشت…”
ويتأمل المشهد السينمائي لموقعة شيكان:
“أنت في اللالوبة مشنقت الوليدات…”
كانت ليالي بيت النمل عجيبة…
جلسات تحليل النصوص، مناقشات لا تنتهي، نصوص القدال وحميدة، ورفاقهم من خارج البيت: عبد المنعم رحمة الله، محمد مدني، محمد عبد الخالق…
كانت القصائد تُقرأ، تُناقش، تُفكك، ثم تُعاد صياغتها في عقولنا كأنها كتب مقدسة.
تحية لصديقي عباس حسن عباس في مهجره، وتحياتي لكل أولئك الذين أعطونا القدرة على تذوق المعاني، وفهم المفردات، ومَن فتحوا لنا نوافذ على عالم الشعر والفكر والجمال.