بروف ابشر حسين محمد يكتب : *فقه الأضحية بين الشعيرة والمصلحة: تجربة محمد الحسن في زمن الأوبئة*
بروف ابشر حسين محمد يكتب :
*فقه الأضحية بين الشعيرة والمصلحة: تجربة محمد الحسن في زمن الأوبئة*
في زمن الكوارث الصحية والأوبئة التي اجتاحت بلادنا، وبينما الناس ينشغلون بهمومهم اليومية ومعاناتهم مع المرض والجوع والضيق، قد يغفل البعض عن المعاني العميقة للشعائر الدينية، ويتشبثون بقشورها دون النظر في مقاصدها. وفي خضم هذه الفوضى، تبرز مواقف نادرة تُعيد للعبادة روحها، وللإنسانية معناها، وللشعائر مكانتها الحقيقية كوسيلة لصون الحياة والكرامة، لا كطقوس جوفاء.
من بين هذه المواقف، حديث دار بيني وبين صديقي محمد الحسن – العالم الموسوعي الضليع في الفقه والفنون – بعد صلاة جمعة بالقاهرة، حين التقينا في لحظة صفاء، وجلسنا نتبادل الحديث حول حال السودان، ومحنة الإسهالات المائية التي تفتك بالأرواح هناك. بدأ محمد الحسن حديثه بإشادة عظيمة بالكوادر الصحية الصامدة في الميدان، الذين يقبضون على جمر المعاناة ويواجهون الموت بصدورهم، في سبيل إنقاذ الأرواح.
ثم دار بيننا النقاش حول الأضحية: هل الأولى أن نرسل أثمانها لدعم إخواننا هناك في توفير المحاليل الوريدية المنقذة للحياة، أم نتمسك بالشعيرة كما هي؟
ابتسم محمد الحسن وقال لي: “يا أبشر أخوي، خليني أحكي ليك عن تجربة شخصية…” وسرد لي قصة عظيمة تجسد الفقه الحي والوعي العملي.
قال: “منذ بداية محنة الإسهالات، جمعت أولادي الأربعة وأمهم، وقلت لهم: دايرين نوقف الصرف الكتير ونختصر في المأكل والمشرب، نترك اللحوم والفواكه والتحلية، ونكتفي بالقليل المفيد كالفول والعدس، حتى الشاي والقهوة وقفناها. عملنا صندوق صغير نجمع فيه الفلوس الفائضة، وكل ما كنا نصرفه على الكماليات. بعد فترة، فتحت الصندوق، فوجدت مبلغًا مهولًا… سألت أولادي، فقالوا إنهم شاركوا الفكرة مع أصحابهم، وبدل ما يقعدوا في المقاهي، بقوا يجتمعوا في أماكن بسيطة بلا صرف، وحتى المواصلات بقوا ياخدوا المواصلات العامة ويوفروا الفرق، ويضعوه في الصندوق.”
قال محمد الحسن: “لما حسبنا الفلوس، لقيناها تكفي لأكثر من خمسة خرفان. فأرسلت المبلغ لصديقي سعد في السودان، عشان يشتري بيهو المحاليل للمرضى. يعني بدل ما أضحي بخروف، أرسلت ما يعادل خمسة أضاحي لدعم العلاج وإنقاذ الأرواح. وفي أثناء ذلك، رزق أحد أبنائي بمولود، فأقمنا سماية في السودان، ووزعناها على المرضى فى مستشفيات العزل. والآن، بعد أسبوع، سنقوم بذبح الأضحية هناك أيضًا، وتوزيع لحمها على المرضى بمستشفيلت العزل.”
وختم حديثه بكلمات عظيمة:
“بهذا، نكون وقفنا مع المريض، ومارسنا شعيرة الأضحية، وعظمنا شعيرة من شعائر الله.”
—
تجربة محمد الحسن تلخص بعمق معنى الفقه الذي يراعي المقاصد والضرورات، ويضع حفظ النفس في مقدمة الواجبات، دون إلغاء للشعيرة، بل بتوسيع معناها لتشمل التضحية الحقيقية: التضحية بالكماليات، بالمألوف، بالمظاهر، في سبيل إنقاذ الأرواح وصون الكرامة.
هذه القصة ليست مجرد موقف فردي، بل دعوة لإعادة التفكير في أولوياتنا، ولتجديد الفهم للعبادات في ضوء مقاصد الشريعة الكبرى، حيث تكون التضحية بالمال والراحة في سبيل إنقاذ الأرواح أعظم أجرًا من التضحية بالشكل فقط.
فلنستلهم من هذه القصة دروسًا في الفقه، وفي تربية الأبناء، وفي الوعي المجتمعي، ولنعلم أن الشعائر ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتزكية النفوس وإعمار الأرض وحفظ الإنسان.
بروف ابشر حسين