منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

زاوية خاصة نايلة علي محمد الخليفة *إكرام الميت دفنه…صمود وتأسيس في غرفة الإنعاش*

0

زاوية خاصة

 

نايلة علي محمد الخليفة

 

*إكرام الميت دفنه…صمود وتأسيس في غرفة الإنعاش*

الدفن في جوهر معناه الإنساني ، ليس مجرد وضع الجسد تحت التراب ، فالموت لا يشترط أن يكون الشخص غائبًا جسديًا أو مطمورًا في التراب ليُقال إنه مات ، فهناك أحياء موتىً ببشاعة أفعالهم ، وبالجرائم التي ارتكبوها في حق الآخرين ، فيظلّون أحياءً في ذاكرة الناس بجرائمهم لكنهم قد فقدوا كل مقومات الإنسانية والاحترام ، إكرام الميت بهذا المعنى ، هو الاعتراف بنهاية دوره في الحياة .

يُحكى أن حِلة من حلال السودان ظلّ أهلها أيامًا يتجادلون حول رجلٍ شريرٍ مات ، قِلة منهم أقسمت أنه ما زال حيًا لأنهم رأوه في المنام ، وآخرون وهم الفئة الأكبر جزموا بموته ، وقالوا فاحت رائحة جسده النتنة، وما في داعي للجدال ، ومع طول النقاش ، بادر شيخ الحِلة بحكمته المعهودة قائلاً بلا وانجلا كان ما مات ، مات وشبع موت ، جيبو كواريكم وكيلهو تراب ، فكانت كلمته فاصلة ، وانتهى الجدل بدفنه كما يليق بالميت.

هذا المشهد الريفي البسيط، يلخّص حال المشهد السياسي في السودان ، مع من يُصرّون على إنعاش جثثٍ لفظها الشعب ، ويريدون جرّ البلاد إلى ما قبل الخامس والعشرين من أكتوبر ، وكأن الزمن لعبة ، والدماء التي سُفكت مجرد تفاصيل صغيرة في دفتر النسيان.

أما التحالفات التي تتصدّر المشهد هذه الأيام تحت لافتات براقة مثل صمود وتأسيس ، فهي تحالفات الإجراميين كما يسميهم الوعي الشعبي ، يحاول أصحابها عبثًا إقناع الناس بأن في الجثة روحًا ، وبأن هناك تواصلاً خفيًا بين مجلس السيادة والرباعية يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ، وهم في ذلك كمن يهمس في أذن الميت قائلاً اصحَ ، فقد عدنا إلى ما قبل الموت.

ويبدو أن أحلام صمود وتأسيس لا تعرف الكفّ عن الهذيان ، فقد أفرغوا ما في خيالهم من أمانيّ في تقريرٍ نشرته الراكوبة ، كمن يكتب رسالة عشق للكرسي المفقود ، يحلمون فيها بلقاءٍ يجمع البرهان وحمدوك وحميدتي على مائدةٍ واحدة ، وكأن الدماء التي أريقت كانت مجرد حبرٍ لتوقيع صفقة جديدة ، يتحدثون عن عودة وتفاهمات ومرحلة مدنية ، كأنهم لم يكونوا شركاء في الخراب ذاته ، ولا مؤسسي هذا الجحيم الممتد ، تراهم يوزّعون الأدوار في أوهامهم ، هذا رئيس ، وذاك نائب ، وذاك مستشار ، وكأن الوطن ملعبهم الخاص ،
هؤلاء حالمون من نوعٍ غريب ، يظنون أن البلاد تُعاد بالتصريحات والتقارير ، وأن ذاكرة الشعب مثل ذاكرة السمك ، تنسى الجريمة إذا تزيّنت بالكلمات ،
لكنهم نسوا أن السودان تغيّر ، وأن الذين أحرقوا بيوته وشردوا نساءه لا يعودون إليه على هيئة منقذين ، بل على هيئة عِبرةٍ لمن لا يعتبر.

الحقيقة أقوى من الوهم ، فمن قتل وشرد واغتصب وفعل ما لا يفعله عدوّ في وطنٍ احتواه ، قد مات معنويًا وإن بقي يتنفس هواء السودان ، إن من خرج من قلوب الناس لا عودة له ، ومن لفظه الضمير الجمعي لا يحييه بيان ، ولا صفقة ، ولا تطمين كاذب.

هؤلاء الذين امتهنوا الكذب حتى صار رئتهم التي يتنفسون بها ، يظنون أن الشعب السوداني بلا ذاكرة ، يتحدثون عن العودة ، كما لو أن الخراب الذي صنعوه كان فجرًا ضائعًا ، بينما هو في الحقيقة ليلٌ حالكٌ لا يُكرّر إلا على أيدي من لا يتّعظ.

لقد قال شيخ الحِلة كلمته الحكيمة ، بلا وانجلا ، كان ما مات ، مات جيبو كواريكم وكيلهو تراب ، وكذلك يقول الوعي الجمعي لأهل السودان اليوم ، هؤلاء ماتوا سياسيًا ، وإكرامهم دفنهم في صفحات النسيان ، لا في مقاعد الحكم…لنا عودة.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.