كتاب (ثقافة أعلام صحافة) 5 تأليف صلاح التوم من الله *صحفيون (فوتوكوبي) وصحافة تحول الصفيح الي ذهب*
كتاب (ثقافة أعلام صحافة) 5
تأليف صلاح التوم من الله
*صحفيون (فوتوكوبي) وصحافة تحول
الصفيح الي ذهب*
لا ادري لماذا اصابني الاحباط فجأة؟ صحيح ان الجو المحيط يدفع الي الجنون وليس الاحباط فقط ولكن اعتدنا ان نبحر في الأعاصير دون ان نغرق .. قد نبتل او تصل المياه الي الحلقوم ولكن لا نستسلم للغرق .. اكتسبنا مهارة وخبرة العيش بين الموت ومظاهر الموت دون ان نموت قبل يومنا (لا يموت الانسان قبل يومه).. لكن فجأة فقدت الاحساس باهمية ما اكتبه ليس تشكيكا في قدراتي ولا طعنا في كل المجتمع وكل الناس وكل القيم وانما تلك اللحظة المبهمة الطاغية التي تجعلني بين الحين والآخر انتبه بعنف الي اننا نحن معشر الكتاب ومعشر الناشطين والفاعلين والمبدعين والمنتجين كافة مثل ماكينات فوتو كوبي تخرج كل صباح نفس النسخ المتشابهة وتتعاظم ازمتنا لاننا مثل الفوتوكوبي ولسنا فوتوكوبي فهذه الآلة لا تكل ولا تمل وليس لديها احساس وطبعا ليس لديها ابداع اكثر من مطابقة الصورة للاصل بينما نحن بشر تحولنا الي آلات ..
البحث عن فكرة جديدة كل يوم في مجتمع تقليدي يدور حول نفسه في كل يوم يرهق روح الكاتب قبل ان تتشرف الفكرة بالخروج .. والهروب من الواقع المرير للبحث في سماوات الخيال عن الحلول يجعل حركة المجتمع تحت رحمة (فنتازيا) قد تعجب بها وتسحرك وانت تشاهدها على خشبة المسرح لكن تتعامل مع الأمر بحذر وشك وريبة كبيرة رغم انجذابك اذا حلم كاتب بتطبيقها عليك في الحياة ولو كان ذلك على الورق .. لم يعد الواقع مجديا والحلم مجديا في مجتمع مستغرق في غيبوبة ويحتاج لايقاظه وتنبيهه الي آلة اكثر حدة من القلم ..
لايحتاج المسؤلون عن البيئة والوقاية الى كاتب ينبههم في كل خريف الى تكاثر البعوض الناقل للملاريا طالما يشاهد هؤلاء يوميا مستوطنات هذا البعوض في برك الماء اثناء ذهابهم من منازلهم الى مقار عملهم والعودة منها .. ولا تمنحهم اية كتابات صحفية مهما كانت قاسية الاحساس بآلام الجماهير أكثر من تعرضهم هم انفسهم للدغات البعوض واوجاع المرض .. ان الحديث عن وجود بعوض في بلد البعوض السودان لم يعد فيه ما يثير الكاتب والقاريء والمسئول .. وكذلك الامر بالنسبة لموضوعات اخري عديدة سياسية وثقافية ورياضية وغيرها قتلناها كتابة وبحثا ونقاشا خلال سنوات عديدة ومع ذلك لا تزال تقتلنا كل يوم وبالتقسيط غير المريح .. نصف قرن نكتب عن المشاكل فتتفاقم المشاكل ولا تحل .. نصف قرن يتحدث السودانيون عن من يحكم وكيف نحكم دون التوصل الى اجابة ترضي الجميع .. عجز سياسي بمنطق عدم التوصل الى حل المشكلة السودانية .. وعجز رياضي بمنطق عدم التوصل دوليا الي احراز كاسات وبطولات وميداليات .. وعجز ثقافي بمنطق عدم قدرة المبدع علي الانتاج .. وعجز عربي اذ ظلت اسرائيل اكثر من نصف قرن تحتل وتقتل وتنتهك الاعراض في فلسطين دون أن نتمكن من منعها وردعها .. اصبح شهداء فلسطين المحمولين في النعوش من المشاهد المالوفة في نشرات التلفزيون المصورة بل صار منظر حيوان باندا جريح في حديقة حيوان بامريكا مؤثرا عند البعض أكثر من منظر الشهيد الفلسطيني اليومى خلال عشرات السنوات .. حتي شعراء المقاومة وفي مقدمتهم محمود دوريش اصيبوا فيما يبدو بالاحباط الكتابي وبعادية احداث القتل المتكرر يوميا ولم نعد نسمع قصائدهم العظيمة مثلما كان يحدث في السابق .. واصبحت اخبار فلسطين من كثرة التكرار والتشابة وتفاقم الفجيعة مملة وممجوجة عند مشاهدي التلفزيون وهي لا تخرج عن قتل وتنديد ثم قتل وتنديد ولا جديد والانظمة العربية (مات الملك عاش الملك عاشت امريكا) وسيظل ذلك كذلك الي ان تكتمل دوسة الجزمة فوقنا ..
الطيب صالح لم يجد فكرة رواية تتفوق علي موسم الهجرة الى الشمال فترك كتابة الرواية لكن الصحفي لا يستطع ترك الكتابة حتي لو لم يجد فكرة جديدة فالكتابة عنده اصبحت (فن) ملء الحيز اليومي او شبة اليومي المتعاقد عليه مقابل مبلغ من المال باسلوب جذاب يرغم القاريء علي شراء الصحيفة والاطلاع عليها مع ان المعلومات مكررة ومعادة ومستهلكة وبالتالي تحول الصحافة الكاتب الى ماكيير مهمته تحويل المرأة العجوز الي فتاة جميلة باستخدام الاصباغ والالوان وادوات المكياج وفي احيان يتحول الى جراح تجميل يجري عملية شد وجه اذا زادت تجاعيد وكرمشات وجه التكرار عن الحد .. ان عملية الكتابة الصحفية في كثير من الأحيان أشبه بعملية تحويل الصفيح الي ذهب عن طريق المهارة في استخدام اللون واللمعان والايحاء النفسي وزغللة العيون ..
رغم احساسنا كصحفيين باننا اناس مهمين ولنا جماهير الا ان ذلك في كثير من الحالات ينطوي علي قدر كبير من خداع النفس .. ان اكثر من عشرين صحيفة يكتب فيها اكثر من مائة كاتب عمود في اجمالي توزيع لا يصل الي نصف مليون قاريء معظمهم لا يشتري سوي صحيفة واحدة وبعضهم لا يقرا في الصحيفة أكثر من كاتب عمود واحد او يهتم بمواد خري غير الاعمدة تعطيك النتيجة النهائية مفاجاة كوننا نفخم انفسنا اكثر بكثير من الواقع لكن ذلك الاحساس باهميتنا ورواجنا ومكانتنا الاجتماعية هو الذي يعطينا مبرر التواصل يومياً وتحمل العنت والقبول بالنكد وشغف العيش وعلى القراء مهما كان عددهم قليلا مقارنة بالشعب السوداني تحمل شكوي الكتاب من الشان الخاص والشان العام ..
صلاح التوم من الله
صحيفة قوون – ١ / ١٠ / ٢٠٠١