منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

د. حيدر معتصم يكتب: حوارات حول الأفكار

0

د. حيدر معتصم يكتب: حوارات حول الأفكار

 أتبرا التي أعرف..والحرب (1)  
      سنوات من الغياب الطويل كادت أن تعصف بكل ما بيني و بين عطبرة من إرتباط وجداني و ذهني مفرط لولا قليل من الزيارات الرسمية المتباعدة لتلك المدينة الوادعة التي أحب وكثير من ذكريات ممتدة بإمتداد سنوات العمر تأبي و تستعصي علي النسيان و قد ظلت محفورة في عصب الذاكرة بنكهة براءة أيام الطفولة الباكرة و شقاوة الصبا و تطلعات بدايات الشباب ، كيف لا و مازالت رائحة حبوبة المميزة و شموخها اللافت تملآن عقلي و حسي و أكاد أحسها كأنها بالأمس القريب و مازالت صورة جدى  بكامل تفاصيل قسماته أمام ناظري و هو يعالج عمامته متأهبا للخروج إلي مخازن السكة حديد حيث يعمل و حيث عشقه السرمدي و عشق المدينة كلها و قلبها النابض ،و في خضم موج تلك الذكريات الممتدة المختلط برهق الحياة اليومي و إستعصائها علي الإنقياد يقدر الله أن تقع الحرب و تشكل كابوسا جديدا و مختلفا علي الخرطوم المكلومة أصلا و يخرج أهلها العزل هربا من ويلاتها  بحثا عن الأمن والأمان ،و مع الناس وكما الناس و بلا مقدمات و من حيث لا أدري أجد نفسي متجها نحو عطبرة تجرني إليها جرا رغبة فطرية راسخة معطونة في عطر تلك الذكريات و كثييير من حب قديم متجدد للناس و المكان ، و قديما قيل أن المرء يذهب حيث يحب بلا وعي منه و ينقاد فأجد نفسي وجها لوجه مع عطبرة التي أعشق باحثا بين جدران بيتنا و تفاصيله عن جدي و عن حبوبة رحمهما الله و هائما علي وجهي في الطرقات و بين الأزقة و الأمكنة في واقع جديد مختلف تماما  للمدينة عن ذلك الذي عشناه رغم أنه لا يخلو من عبق الماضي و عطر أنفاسه الذي يداعب وجدانك و يكاد يلامس أرنبة أنفك و أنت تتجول محاولا  علي وقع تلك الأنفاس أن تستحضر الماضي بكل ما يحمل من عنفوان و أحاسيس تعيشها و تحسها و أنت متفحصا ملامح الناس و الأشياء ، فهاشم أرتولي إبن الحي مثلا حينما إلتقيته لم أجد تلك الصورة القديمة المرسومة في الذاكرة و لم يعد ذلك الطفل البرئ المطبوع في دواخلي و لم يعد نادي الشرطة ذلك المعلم البارز موجودا يزين المكان  و لا النيل المدرسة حيث كنت أدرس و قد تحول المبني إلي مخازن لشركة البيبسي كولا بعد رحيل أستاذ الشلالي أحد أهرامات عطبرة كما السكة حديد ،أما زميل الدراسة  صديقنا عادل يحيى لاعب و عاشق نادي الربيع للناشئين سابقا فقد  أصبح مديرا للإذاعة و الإذاعة تكسوها الحيرة و هي صامته في زمن الحرب، و حديقة البلدية في مكانها بعد أن ضاعت مكتبتها و أهم معالمها حيث عرفنا العقاد و التجاني يوسف بشير و عرفات و المازني  و محي الدين فارس و نجيب محفوظ و السباعي و غيرهم ، والسينمات الوطنية و الجمهورية قد تبدل حالهما و قد إختفت جنة الفواكه و أختفت معها المهلبية و كل ذلك الألق الذي كان يميز المكان، وصديقي أحمدون لاعب الربيع و هلال عطبرة فمازلت أبحث عنه و لم أجده و حيدر الفكي محمود ود كنور العربية يقيم في قطر و كثير من أصدقاء الأمس و زملاء المدرسة قد تركوا المدينة و تشتتوا في أصقاع الدنيا الواسعة ،أما السكة حديد ملح الحياة في عطبرة و قلبها النابض فقد تحولت إلي قضبان و عربات و رؤوس قاطرات و خردة متناثرة بعشوائية تملاء المكان وكأنها تحس بألمك و أنت تتجول بين حطامها مشاطرا لها الألم همسا فتبادلك الهمس بهمس و حزن عميق و لسان حال المكان يحدثك بحرقة  : هل من أمل في عودة ذلك الصرح الشامخ  و تلك السنين الزاهرات ليضج المكان  ثانية بروح الصافرات وأزيزالقاطرات عصب المدينة و مركز إحساسها لترسم من جديد مع  توأم روحها المدفعية عطبرة لوحة الفرح القديم لتعود و تسمع من جديد صفارة الأمن و الأمان الذي قامت عليه حياة المدينة كلها و عاشت علي إثره …نواصل
  د.حيدرمعتصم 16مايو 2023   

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.