منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

السفير عبد الله الأزرق يكتب: *المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (40)* *لندن (3)*

0

سأكتفي بذكر بعض أمثلة تكشف تحيز كل من الحكومة والصحافة البريطانية ضد السودان، ونظرتهم غير الموضوعية للحكومة السودانية، ودعمهم لمعارضيها.
توفرت لدينا، في السفارة، وثائق وشواهد تثبت أن المعارضة تزوّر وثائق تدين الحكومة السودانية زوراً.
ويُسهم في تأليف هذه الوثائق المزورة عدد من أشخاصٍ معارضين، يتقاضون مبالغ مالية نظير تزويد طالبي اللجوء بهذه الوثائق المزورة..
وأشهر هؤلاء شخص مشهور باسم “إبراهيم عضّة”، يقيم في مدينة بيرمنجهام.
وكمثال لما يزوّره إبراهيم عضة أنه كان يعطي طالب اللجوء خطاباً يدّعي أنه خطاب استدعاء من جهاز الأمن السوداني.
لكن المُزوّر إبراهيم كان يخطئ، فيضع الهدهد، الذي هو الشعار الرسمي للجهاز على الجانبين العلويين من الوثيقة!! بينما أوراق الجهاز الرسمية تحمل شعار الهدهد واحداً في أعلى منتصف وثائقه..
يُعَلّمك العمل في الخارجية وطول التجربة وقوة الملاحظة قدرة فرز المزوّر من الوثائق الحكومية وتلك الحقيقية .

ثم يحمل طالب اللجوء وثيقة عضة للسلطات البريطانية لإثبات أن جهاز الأمن يطارده!!!
عرضت عدداً كبيراً من وثائق مزورة على صحفي يعمل في صحيفة كبيرة بلندن.. سُرَّ الصحفي بما حصل عليه، وقال لي: إنه سيكتب تحقيقاً استقصائياً Investigative Report سيثير ضجةً كُبري.
اختفى الصحفي لعشرة أيام، ولما اتصلت به قال: إنه يفضل أن يحضر إليّ ليفيدني بما حدث.
حضر الصحفي وقال: إنه كتب التحقيق ورفعه لمدير التحرير الذي أفاده أن التقرير ممتاز لكن الصحيفة لن تنشره؛ لأن نشره يتناقض مع السياسة التحريرية للصحيفة Editorial Policy؛ ذلك لأن نشره، رغم ما فيه من حقائق، يفيد حكومة المتطرفين الإسلاميين في الخرطوم!!!
ولم تُجْدِ مرافعة الصحفي أن الخزينة البريطانية تخسر ملايين الجنيهات الإسترلينية حين تمنح لجوءً بناءً على وثائق مزورة تقوم بها عصابات إجرامية.

كانت إفادة الصحفي لي محبطة؛ وفي نفس الوقت كاشفة عن أسطورة الموضوعية وحرية الصحافة البريطانية، حين يتعلق الموضوع بقضية علاقات خارجية.

تحدثت في هذا مع صديق عضو بمجلس العموم البريطاني، وهو متمرّد على الملأ من قومه The Establishment.
ضحك العضو البرلماني وقال لي: المؤكّد أن حكومتنا تعرف كل هذا ولا تحتاج لتقرير صحفي، ولكنها تَغُضّ الطرف؛ لأنها تجهز لكم (الكرزاي)
‏” They are preparing their Karazai for you.”
وواضح أن الذين تقاطروا على الخرطوم بعد سقوط نظام البشير هم (الكرزايات) الذين عناهم صديقنا عضو مجلس العموم House of Commons.
هذا مثال فيما يلي السودان.
ولكن تحيّز الصحافة والإعلام البريطاني، وأسطورة الحرية الصحفية، في قضايا العلاقات الخارجية، تنبئ عنها تغطياتهم لكثير من القضايا.
ولعل أشهر هذه القضايا (صفقة اليمامة) Al-Yamaha Arms Deal التي منع فيها توني بلير الصحافة البريطانية من كشف فساد بمليارات الدولارات..
وامتثلت له كل الصحف..
وحالياً تكشف عنها تغطياتهم المتحيزة لمجريات الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

رَتّبتُ مع عددٍ من أعضاء مجلسي العموم واللوردات لزيارة السودان؛ للاطلاع على حقيقة الأوضاع عن كثب عبر اللقاء مع المسؤولين وغيرهم.. وكان بالوفد ثلاث سيدات ومسلمون ومسيحيون.
ورتبتُ مع أحد رجال الأعمال أن يستضيف الوفد على الغداء بمزرعته على شاطئ النيل الأزرق وأن يتيح لنا يخته Yacht لرحلة نيلية. وطلبت من بناتي أن يقمن بدعوة ثلاث من صديقاتهن للتحدث مع السيدات.. وبعض صديقاتهن لم يكنّ يلبسن حجابا ، وهنّ شابات في قمة التهذيب .

مما أذكره أن عضوات العموم واللوردات انفردن بالبنات وتركزت أسئلتهن عن فيما إذا كنّ يجبرن على الزواج عبر زواج منظم من الوالدين Arranged Marriage؛ وكيف سمحت الحكومة لغير المحجبات بعدم ارتداء الحجاب؛ وعن فرض الختان الفرعوني على الفتيات في السودان…!!
وكانت إجابات البنات أن الوالدين لا يفرضون الزواج المنظم عليهن، وأن الدولة لا تفرض الحجاب قسراً، وأن القوانين تحارب الختان الفرعوني…
وكانت تلك الإجابات صادمة للعضوات، ومناقضة لكل ما كنّ يقرأن في الصحافة البريطانية.
أذكر أن أحد أعضاء الوفد المسلمين أسَرّ لي أنهم كمسلمين، ورغم عضويتهم بالبرلمان، يخضعون للمساءلة من قبل جهاز الأمن البريطاني، تماماً مثلما يخضع الشخص العادي، وأن موضوع الحصانة لا يكاد يتمتع به العضو المسلم!!
وهذا كان بالفعل صادماً لي.

وبعد عودتنا للندن بأيام؛ أفادني رئيس الوفد، وهو مسلم، أن كلا من الخارجية البريطانية وجهاز المخابرات الخارجيMI 6 استجوباه عن الزيارة، ولاماه لكثرة الأعضاء المسلمين بالوفد!!!

وقال لي أحد أعضاء مجلس العموم زار السودان، وعرف حقيقة الأوضاع، ومدى مبالغات الإعلام البريطاني، وتحيّز حكومته:
‏”You have a case, but you don’t have a Lawyer. Realistically, there is no perfect government even in the West .”
“إن لكم قضية عادلة، لكنكم تفتقرون لمحامي.. واقعياً ليست هناك حكومة مثالية حتى في الغرب”.
وصدق الخواجة، فكل حكومات العالم – بما في ذلك الحكومة السودانية – خلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً، حتى في البلاد التي تدعي أنها رائدة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. وبعض الحكومات لا تعرف صلاحاً، وإنما دكتاتوريات قابضة وأحياناً مُميتة!!

كانت تلك مجرد أمثلة للأجواء المتحيزة بل المعادية التي كنت أعمل فيها في السفارة والتي مكّنت المعارضين للإنقاذ أن لا يرعوا في السودان إلّاً ولا ذِمّةً. فكانوا لا يفرقون بين الوطن والحكومة في الاستهداف؛ وتلك جريرةٌ عُظمى.

ما ينبغي أن أنسى رجالاً زاملوني في تلك الحِقبة. من بينهم السفير محمد عبد الحميد؛ الذي ينافسني في (الرجالة)!!!
كان محمد عبد الحميد شديد الإخلاص والمهنية والشهامة، وكان شجاعاً يصدع بالحق، كشأن قومه النوبيين.

وزاملنا مندوب جهاز الأمن العقيد – وقتها – معاوية مدني، الذي كان إضافة طيبة للسفارة. وكنت كلما أرى تهذيبه أعجب لظلم المعارضين لرجال الأمن السوداني. وأشهد أن أكثر من تعاملت معهم منهم، كانوا رجالاً وطنيين محترمين ومهنيين.
وللحقيقة تتمتع أجهزة الأمن بتقدير كبير وإدراك لأهميتها كجهاز مناعة للبلد، خاصة في الدول الغربية. ولكن الحزب الشيوعي شَوّه صورة الأمن في السودان منذ عهد نميري، وهو خطأ جسيم يضر بسلامة الوطن.
وكثيراً ما شاهدنا وقرأنا عن وحشية وبطش أجهزة البوليس والأمن Police Brutality في بريطانيا وأمريكا.
ولا يساورني أدنى شك أنها أشد قسوة وشراسة من أمننا بما لا يُقارن أبداً.
فإن قسا الأمن السوداني على أفراد – وقد فعل – فما ينبغي تعميم الفعل لنشمل به كل الجهاز؛ فهذا خطأ وظلم.
وجاء في حِكَمِ الفرنجة:
‏” Every Generalization is Wrong Including this One”
“كل تعميم خطأ بما في ذلك هذا التعميم نفسه”!!!

وقد أقَمْتُ شهادتي في حق جهاز الأمن السوداني بناءً على ما سمعته ممن اعتقله جهاز الأمن وفيهم شقيقي الذي يكبُرُني ، الذي اعتقل أكثر من مرة.
وأشهد أن اللواء أمن عمر عبد المطلب أرسل مالاً لأسرة معتقل قريبي كان في مُعْتَقَلِه لمّا عَلِمَ أن له تسعة أبناء!!!

📍السفير عبد الله الأزرق
————————————-
30 نوفمبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.