د. محمد بشير عبادي يكتب : *صنعة في اليد أمان من الفقر*
د. محمد بشير عبادي يكتب :
*صنعة في اليد أمان من الفقر*
شهد السودان بدايات العشرية الأولى من الألفية الميلادية الثالثة،إستقراراََ ونمو إقتصادي، بعد إستخراج وتصدير البترول، الذي كانت أول شحنة منه للخارج في العام 1998م، فى هذه الفترة عاش المواطن السوداني بحبوحة من العيش بعد سنوات عجاف في فترة التسعينيات وما قبلها من القرن المنصرم، هذه البحبوحة التي لم تدم طويلاََ بعد إنفصال جنوب السودان في نهاية العشرية الأولى وذهاب أغلب إنتاج البترول جنوباََ، إلا أن النمط الإستهلاكي غير المنتج الذي أحدثته تلك الفترة لازال قائما إلى يومنا هذا، برغم التصدعات الخطيرة التي حدثت للاقتصاد السوداني، موصلة له حد الإنهيار بجموح التضخم وهبوط سعر صرف الجنيه السوداني لأدني مستوى له والذي لم يشهد مثيلاََ منذ إستقلال السودان في العام 1956م.
تشكل هذا النمط الاستهلاكي بالمداومة على إستيراد كثير من السلع الكمالية (Luxurious Goods) وهي السلع التي يرى غالبية الناس أن الحاجة إليها على أدنى درجة من الأهمية، أي أنها سلع غير ضرورية يمكن للإنسان الاستغناء عنها من وجهة نظر غالبية أفراد المجتمع،كالزهور الطازجة التي كانت تأتينا من بلاد الشام وغيرها لتباع في متاجر وأكشاك أنيقة منتشرة في أحياء الخرطوم الراقية، كانت هذه الزهور تستورد طازجة بالطيران، قاطعة آلاف الأميال إلى بلد هو في الأصل بلد زراعي،كان يمكن إنتاج ذات الزهور على أرضه، أنظر إلى هذه المفارقة،من هنا بدأ النمط الاستهلاكي يتخلق ليشمل عديد السلع الكمالية، كألعاب الأطفال وأدوات التجميل وكثير من صيحات المودة في الملابس والإكسسوارات (عرفنا البنطلون الناصل منذ ذاك الزمن).
إن هذه السلع الكمالية يمكن صناعتها داخل الدولة، بل يمكن لكثير من الصناعات الخفيفة التحويلية أن تنشأ لتنتج سلعاََ ضرورية أكثر أهمية من الكمالية، لتلبية حاجة المواطن اليومية من مأكل ومشرب وملبس وتصدير الفائض منها للدول من حولنا وإلى العالم أجمع، خاصة وأن السودان يمتلك خامات جيدة زراعية كانت أو معدنية وبكميات مهولة، بل السودان يمتلك خامات حصرية لا تتوفر لدول أخرى وإن وجدت عندهم تكون بجودة أقل، كخام الصمغ العربي والسمسم والفول السوداني وكثير من محصولات الحبوب، هذا بجانب المعادن غير الذهب.. إن الرمل على سطح أرض السودان وحده كفيل بأن يكون مورداََ معتبراََ لخزينة الدولة، فهو يشكل خاماََ لل”سيليكا” التي تدخل في عدة صناعات، بعد إعمال القيمة المضافة عليها.
إن الصناعات التحويلية الخفيفة لا تحتاج لإمكانيات عالية ولا رؤوس أموال ضخمة ولا مصانع ذات بنية تحتية كبرى، فالصناعات الصغيرة هي عملية تصنيع تتم في المنشآت الصغيرة نسبياََ، هناك العديد من الصناعات الصغيرة والمتنوعة، حيث تُعدّ جميع الصناعات التحويلية صناعات صغيرة، تتميز بها الاقتصادات التقليدية ويمكن القيام بهذا النوع من الصناعات في المنازل بواسطة أفراد الأسرة، فالأمر لا يحتاج سوى مهارات فنية (Artistic skills) تعتمد على کفاءة أو قدرة يدوية متطورة في فن من الفنون أو حرفة تتطلب قدرة يدوية خاصة وخبرة في ممارستها وهي تقنيات بسيطة لإنتاج بعض الأعمال الفنية من خلال الخامات المختلفة، فأنت إن كلفت نفسك بجولة قصيرة على مواقع التواصل الإجتماعي في (يوتيوب) أو (تيك توك)، ستشهد العجب العجاب من أناس مبدعين، منهم من يعيد الحياة في ساعات قلائل لسيارة أثرية مصنوعة منذ بدايات القرن العشرين، فتراها كأنما صنعت اليوم، مستخدماََ في ذلك أدوات يدوية بسيطة ومنهم من يصنع مسامير معدنية من حديد خردة ومنهم من يصنع مواد غذائية ويقوم بتعبئتها وتغليفها في عبوات أنيقة جذابة المنظر من مواد بدائية ومنهم من يقوم بتدوير النفايات ليصنع منها أدوات تصلح لحمل الأطعمة وكثير من المنتجات.. هناك العشرات والمئات من نماذج الصناعات الصغيرة الخفيفة التي يمكن للواحدة منها أن تكون مشروعاََ إقتصادياََ يدر المال الوفير لأفراد الأسرة، ليتحول المجتمع تلقائياََ من نمط الاستهلاك إلى الإنتاج، فترتفع الدخول وبالتالي مستوى المعيشة للأفضل ويودع الناس بذلك عقود من الفقر إلى رحاب رفاهية ممتدة وبالتالي نهضة كبرى للدولة.
هذا الأمر لن يتحقق بمجرد الحلم وإن كانت الأحلام مشروعة والإنجاز العظيم يبدأ بحلم وكما يقولون:المخطط حالم(Planner is dreamer)..ولكن الأمر يحتاج لحزمة من الإجراءات على الأرض، تبدأ بسن التشريعات والقوانين المناسبة، التي تسهل قيام الصناعات الخفيفة التحويلة، فيما يختص بإستيراد التقانات والمعدات المطلوبة لهذا الضرب من الصناعات وبالاعفاءات الجمركية والضريبية،بتنظيم المعارض والفعاليات التي تروج للمنتجات محلياََ ودولياََ وبتبسيط إجراءات الإستيراد والتصدير، وبإنشاء المعاهد الفنية لتدريب العمالة الماهرة وإقامة الدورات التدريبية المستمرة لإكتساب وتنمية المهارات وتعزيز التفكير الإبداعي لدى أفراد المجتمع.
لا أود الحديث عن حاكم إقليم يطارد المساعدات الإنسانية أينما وجدت، ممنياََ رعاياه بجلبها من(حكومة المركز) ومن الخارج بدلاََ من شحذ هممهم وتوجيه طاقاتهم للإنتاج أو وزير يقول لمنسوبي حركته المسلحة: (قبلت بالمنصب الوزاري عشان أقلع ليكم القروش من الحكومة)، أو زعيم تمرد أدخل البلاد في أتون حرب أهلكت الحرث والنسل، ثم يزرف دموع التماسيح متباكياََ على الوضع الإنساني المزري للشعب السوداني، عقب حرب هو من أشعل نارها ومستمر في ضرامها.. ولا أود التحدث عن سياسي وناشط إنتهازي عميل قبض الثمن، ليبيع موارد السودان للخارج بأبخس الأثمان.. فكل ذلك وغيره صار أمراََ معلوماََ لدى الشعب السوداني الذي يزاداد وعيه يوماََ بعد يوم،فهذه الحرب رغم مراراتها قد أيقظت أهل السودان من غفلتهم وغفوتهم.
نريد أن نتجاوز كل ذلك وننفذ للهدف الأسمى وهو إستقرار السودان ونقول ونشدد عليه للجميع، أن أرفعوا أياديكم عن السودان ودعوه يستقر فقط لينهض، فهو لا يحتاج لمساعدات إنسانية من الخارج ولا إغاثات، بما يمتلكه من موارد بشرية ومادية لا نظير لها في الدنيا كلها وليذهب سماسرة وتجار الأزمات ولوردات الحروب إلى الجحيم، فقد سئم الشعب السوداني أساليبكم الإحتيالية من شاكلة البيانات المفبركة والوقفات الاحتجاجية المصنوعة للتسول أمام السفارات والبرلمانات الأجنبية.. هي تجارة صارت بائرة وحيل لن تنطلي على أحد بعد اليوم.
ختاماََ نقول لولاة الأمر في بلادنا، على الدولة بكافة مؤسساتها، تشجيع الصناعات الخفيفة التحويلة،ليس بتمليك أدوات الإنتاج فقط، كما درج على ذلك ديوان الزكاة مشكوراََ مأجوراََ منذ أمد بعيد ولكن بتطبيق الحزم المذكورة، لتكون سلسلة لحلقات متكاملة محصلتها توطين الصناعات الخفيفة ووقف إستيراد الكماليات للأبد وليكن الاستيراد للمعدات والآليات والتقانات اللازمة للإنتاج.. نريد من الدولة أن تملك المواطن سنارة وتحفزه للصيد بها بدلاََ من إعطائه سمكة،فصنعة في اليد أمان من الفقر، لينهض متوكلاََ على الله لا متواكلاََ.