منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

راشد عبد الرحيم يكتب: *يا عابد الحرمين*

0

ذاك الزمان كان الناس علي فطرتهم . التاسعة مساء يخلدون إلي النوم و لا تسمع في الطرقات إلا بعض نباح كلاب متقطع او اصوات قطط متشاكسة .
مع نسمات الفجر و بعيد الأذان الثاني نسمع مزلاج الباب و هو يفتج بهدوء . و خطوات علي الأرض و كأنها تلامسها في رفق . حفيف منغم و كأنما صاحب المسير يحادث ما يمشي عليه حتي يبلغ منتهاه .
ثم تقام الصلاة و كانما الذي سمعناه سيمفونية مرتبة موزعة النغمات .
كانت تلك خطوات الشاب العابد عمنا عمر عبد الوهاب .
كل شئ منتظم حياة ليس فيها غير عبادة خالصة لا تعرف طريقا لمضارب اللهو و التسلية .
إنتظام في اليوم و الليلة و الأسبوع و الشهر .
اليوم كل الصلوات في المسجد عدا الظهر في موقع العمل . و في اليوم ساعة بعد العصر في مدارسة يوم لتفسير إبن كثير و يوم للفقه من كتاب نيل الاوطار للإمام الشوكاني و بعد المغرب حلقة التلاوة في المسجد .
الجمعة يومها حافل رحلة إلي حي السجانة حيث الحلقة الراتبة في السيرة يقدمها الشيخ الصافي جعفر الصافي
في منزله .
ذاك يوم بطعم سوداني خالص تنسجه إمرأة سودانية خالصة هي السيدة بنت المدني والدة الشيخ الصافي .
رغم سنها فقد كانت سابقة للنساء اول إمراة أراها تقود الدراجة .
كل جمعة تقود دراجتها إلي السوق لتات محملة بذاك الإفطار الذي لا ينسي .
قراصة تسميها ( خمسة بوصة ) دلالة علي سمكها .
صحن كبير عليه القراصة ذات المذاق الفريد و يعقبها البطيخ البارد شديد الحمرة و كوب شاي يظل طعمه عالقا بالفم طوال اليوم .
يوم الجمعة عند عمي و اخي عمر لا يخرج عن ذلك الا بخطوات لشراء مجلة ( العربي ) و هي من اروع المجلات التي تعلمت منها القراءة النضرة .
كان عمي عمر شديد الإعجاب برئيس تحرير المجلة و هو الكيميائي المصري الدكتور أحمد زكي . كان للدكتور أحمد زكي مقالات تتراوح بين عنوانين ( مع الله في الأرض ) و ( مع الله في السماء ) . علم غزير في أسلوب سلس جذاب مشوق يربط حقائق العلم بالايمان فقد كان الرجل عالما تسنم الكثير من المواقع العلمية منها رئاسة جامعة القاهرة .
*القراءة*
كان عمي عمر مرتب في كل شئ يومه الموزع بين العبادة و المدارسة و صلة الرحم و في مطالعته فقد تخير ما يسكن إليه من المطالعات و الكتب .
إضافة لكتابي المدارسة في التفسير و الفقه فقد رايت كتابا دائما ما يقراه لم اره عند غيره و هو كتاب يعكس شخصيته المتعمقة في التعبد بتبصر ذاك كتاب ( الرعاية لحقوق الله ) للعالم ابو الحارث المحاسبي .
في السيرة تخير ان يقرا عن العلامة العابد الزاهد عبد الله بن المبارك و من شعره الابيات المشهورة .
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت انك بالعبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه فرقابنا بدمائنا تتخضب
*المعايشة*
لا تعني هذه السيرة المتميزة ان الرجل كان منصرفا وزاهدا عن الحياة و الناس . كانت له صلات و صداقات بشخصيات متعددة منهم من كانوا علي غير المالوف من الصفات و لكنهم كانوا ينطوون علي خير كان ينتقيهم و يحبهم .
راج بين الاسرة ان عمي عمر و والدي متخاصمان و كانا لا يسلمان علي بعضهما و تكاد الصلة بينهما تكون مقطوعة .
كنت علي يقين ان هذا الخلاف مفتعل و ذلك بسبب ان والدي كان شيوعيا و عمي إسلاميا .
و لما كنت مقتنعا ان عمي لن يخذلني فقد ذهبت لوالدي و قلت له لماذا تخاصم اخيك ؟ قال لي انا لم اخاصمه و إنما هو من يفعل فقلت له إذا سياتينا غدا لنشرب الشاي عصرا .
و كانت جلسة تاسفت انها لم تكن مصورة .
و نحمد الله ان والدي توفي و كان لسانه رطب بذكر الله و الشهادتين .
*زواجه*
كان الناس يظنون ان حفل زواجه سيكون جامدا جافا لا فرح فيه .
اعد لزواجه في صمت و جاء إحتفاله فريدا .
فقد تزوج بنت خالته التي كان يجلها و هي من توتي فاعد سيرة لا مثيل لها
خرج الناس عصرا من البيت في بري في سيرة و غناء و النساء يحملن جريد النخل إلي نهر النيل الازرق قرب الشرطة في بري المحس حيث كان البنطون في إنتظارهم . فواصلوا الغناء و الطرب و البنطون يمخر عباب النيل . عند بلوغ توتي طاف البنطون بنا حول الجزيرة فكان منظرا خلابا ينظر إليه الناس من الضفتين فرحين مستبشرين .
*العمل الإجتماعي* .
غادر عمي عمر للعمل في سلطنة عمان و عاد و قد اسس بيته و تفرع لعمل إجتماعي واسع كان كل يومه مسخر لخدمة الحي و أهله
مضي و قد خلف بيننا صورة للعبادة و حب الخير للناس و خدمتهم و صلة الرحم و صفات قلما تجتمع في رجل لا يعرف كلمة فاحشة واحدة و لكنه يحب الكلم الطيب العفيف اللطيف .
يحب من كل شئ الحسن الرقيق الذي تتقبله النفوس .
كان يعجب بصوت الفنان احمد الجابري و كان يقول لي لو ان هذا الرجل رتل القرآن لاخذ بقلوب الناس .
و من طربه للكلمات اني كتبت له في رسالة عبارة ( أسأل الله ان تكون في نعيم لا ينسي نعيم الآخرة ) فطرب لها كثيرا . سمي ابنه البكر ( أنس ) علي الصحابي الجليل خادم رسول الله أنس بن مالك ثم أتبعه بأسماء إخوة انس و كلاها ذات دلالة احمد رسول الله ثم اكرم و النور علي شقيق زوجته وفاء لها
*وفاته*
قبر العم العزيز الغالي في الجريف شرق حيث من بقي من الاهل الذين حرمتنا الحرب اللعينة ان نشهد معهم جنازته و قبره .و منعت اهل توتي الذين يحبهم كثيرا فقد حبسهم الاوباش من الترحم عليه في قبره .
لك الرحمة و المغفرة يا من تعلمنا منه رحابة الصدر و خالص المودة و العفة في كل شئ .

#منصة_اشواق_السودان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.