منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

بروف كمال محمد جاه الله الخضر يكتب : *مدينة مايو بجنوب الخرطوم: النشأة والتطور والتركيبة الإثنية- اللغوية*

0

يحاول هذا المقال تناول نشأة مدينة مايو بجنوب الخرطوم وبعض تاريخها، وطبيعة تركيبتها الإثنية- اللغوية، بالإضافة إلى تناول طبيعة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان هذه المدينة.
طبيعة نشأة مدينة مايو:
أنشئت مدينة مايو الحالة في منطقة خلاء تقع جنوب ما كان يسمى بالحزام الأخضر(1)، ولم تكن هناك مساحة مأهولة بالسكان تقرب منها إلا قرية “عد حسين”، التي سبقتها إلى ذلك الفضاء الواسع في جنوب الخرطوم.
هناك عدد من الروايات حول تحديد تاريخ نشأة هذه المدينة، لعل أقواها تلك التي تشير إلى أن النشأة كانت في أكتوبر من العام 1970م. وقد كان ذلك بعد مضي حوالي عام ونصف من قيام ثورة مايو في العام 1969م بقيادة الرئيس السابق المرحوم جعفر محمد نميري، الذي أصدرت السلطات في عهده قرارات بإخلاء العاصمة من “الكراتين”، وتجميع سكانها في أكثر من موقع بأطراف العاصمة. فأنشئت مايو كأكبر منطقة عشوائية على مستوى العاصمة القومية.
تضافرت حوالي عشرة مصادر رئيسة في تغذية مدينة مايو بالسكان في عهدها الأول، لا سيما في الـ 13 سنة الأولى من عمرها، وهذه المصادر العشرة، هي(2):
أولا: منطقة الصهريج الكبير بشارع الغابة، وقد كانت هذه المنطقة تسمى قديما بـ “كرتون الخرطوم 3″، الذي تسكنه مجموعة كبيرة من العمال من مختلف القبائل والسحنات، يجمعهم فقط القرب من المنطقة الصناعية (للخرطوم)، التي يسترزقون من العمل فيها، دونما حاجة إلى مال يدفعونه مقابل السكن والمواصلات.
ثانيا: منطقة “سوق الشمش” بجنوب عشش فلاتة (حي النزهة حاليا): وقد كانت هذه المنطقة عبارة عن سوق عشوائي كبير في منطقة عشوائية كبيرة، تغلب على تركيبتها السكانية جماعات إثنية ذات أصول وسط وغرب إفريقية. وعندما تفشت في هذه المنطقة ظاهرة الحرائق، التي ترتب عليها موت الكثيرين، لازدحام المنطقة؛ تقرر ترحيلها إلى جنوب الحزام الأخضر.
ثالثا: منطقة سوبا: شهدت بداية سبعينات القرن الماضي قيام العديد من الكراتين، التي نجمت عن العمالة (أغلبها من غرب السودان)، التي ساهمت في بناء عدد من المرافق في منطقة سوبا، مثل: مستشفى سوبا الجامعي، والأبحاث البيطرية، وكلية علوم الغابات والمراعي، وغيرها من المرافق في منطق العاصمة المختلفة. ولما كثرت الأسر في هذه الكراتين العشوائية، تقرر ترحيلها إلى مايو في عام 1972م.
رابعا: منطقة الديوم الشرقية: مثلت هذه المنطقة بمختلف مسمياتها الداخلية من ديم السلك، وديم القنا، وديم التعايشة…إلخ، مصدرا مهما من المصادر، التي رفدت مايو بعدد معتبر من السكان الأوائل، لا سيما الذين ضاقت عليهم منازلهم بتوسع الأسر، فهاجروا إلى مايو بمحض إرادتهم، وآخرون ضاقوا ذرعا من غلاء الإيجار في هذه المنطقة، فانتهت رحلتهم إلى مايو.
خامسا: منطقة بري: احتضنت هذه المنطقة ما يشبه “الكنبو”، الذي كان يسكنه في الأصل مجموعة من طبقة العمال والخفراء، الذين كانوا يعملون في الهيئة المركزية للكهرباء، وما جاورها من مرافق حكومية. وكان هذا الكنبو يتمركز بين بري والبحر (النيل الأزرق). وقد تم ترحيل سكان هذا الكنبو بعد أن أصبح مصدر إذعاج للمنطقة حوله.
سادسا: منطقتا سباق الخيل واللاماب (ومنهما تم تهجير مجموعتين كبيرتين إلى مايو في منتصف سبعينات القرن الماضي). وقد أنشأت هاتان المجموعتان حي الوحدة، الذي يعد أول تنفيس للمدينة بعد تكدست بيوتها وسكانها.
سابعا: منطقة دار السلام بشرق الكلاكلات (التي تم تهجير سكانها إلى جبل الأولياء ومايو، ثم حولت لاحقا إلى خطة سكانية درجة أولى بولاية الخرطوم).
ثامنا: خفراء العمارات المكتملة وغير المكتملة في العاصمة (الذين كونوا حي “غبوش” آخر الآحياء نشأة في مايو).
تاسعا: مناطق مختلفة من الخرطوم (حيث شاع في عدد من مناطق الخرطوم أن هناك أراض في منطقة ما جنوب الحزام الأخضر توزع دونما مقابل؛ مما شجع الكثيرين منهم على الذهاب إليها).
عاشرا: بعض المتفلتين: وهؤلاء قدموا من مناطق مختلفة من ولاية الخرطوم وغيرها. وقد تضررت منهم سمعة المدينة إلى اليوم. ويمثل هؤلاء عدد معتبر من المتفلتين، الذين يضايقهم النظام والقانون، فوجدوا مبتغاهم في هذه المدينة البعيدة، فأنشأوا أوكارا لهم، ساعدت في استقدام الكثيرين منهم إلى مايو، لا سيما في الأحياء غير المخططة. وقد وفرت لهم هذه الأحياء ستارا يصعب على أيدي العدالة أن تتعقبهم فيه.
يفهم مما تم استعراضه أن المهجّرين والمهاجرين، الذين كانت نهايتهم إلى جنوب الحزام الأخضر قدموا، في الغالب، من مناطق عشوائية أو شبه عشوائية من ولاية الخرطوم، في صورة متتابعة ومتلاحقة مع الزمن. وقد كانت طريقة وطبيعة من رحلوا إلى مايو قسريا، فيها كثير من الصعوبة والغلظة والإهانة، لا سيما وأن المنطقة كانت بعيدة عن مركز العاصمة، وكانت مليئة بالأشجار الشوكية والحيوانات الأليفة وغير الأليفة، وبالعقارب والثعابين، بالإضافة إلى غياب الخدمات بكافة أنواعها من ماء وصحة وتعليم وغير ذلك.
وقد كان لذلك كله أثره النفسي والاجتماعي العميق وسط هؤلاء البشر الذين وجدوا أنفسهم، فجأة، في بقعة جرداء أشبه بمحل جامع لما لا ترغب فيه العاصمة من البشر، فولد فيهم الإحساس المتوارث (المكبوت والمعلن) بالغبن على الأنظمة الحاكمة، والرغبة العنيفة في الانتقام من الآخر، متى ما أتيحت فرصة، لا سيما وأن مناطقهم التي أجلوا عنها قسرا أصبحت لاحقا من المناطق المتميزة في العاصمة.
كيف ما كان الأمر فقد أنشئت مايو جنوب الحزام الأخضر باعتبارها مكباً لعدد من الكراتين والعشوائيات. وأصبحت أكبر تجمع عشوائي تشهد ولاية الخرطوم في تاريخها. وقد استمرت منطقة عشوائية، لم تزرها الخدمات بكافة أنواعها لا سيما في سنيها الأولى، يعاني فيها من يبحث عن جريمة ماء، ولم تكن بها نقطة شرطة، أو مدرسة، أو محكمة، أو مستشفى، وغير ذلك من المرافق الضرورية(3). أما الخدمات ذات العيار الثقيل، التي تشجع على الاستقرار وتحفظ الأمن (مثل الماء، والكهرباء، والتعليم المتوفر والمتنوع، والتخطيط، وسفلتة الشوارع …)- فقد ارتبطت بعهد حكومة الإنقاذ، أي بعد عقدين ونيف من الحياة المليئة بالمعاناة والنصب والمسغبة.
إن المتتبع لنشأة مدينة مايو وتطورها إلى الحالة التي هي عليها الآن، لا بد أن يضع تصورا في ذهنه، يذهب إلى أن مدينة مايو تنقسم إلى قسمين متباينين هما:
أولا: مايو القديمة (1970 – 1982): تكونت مايو القديمة من أحياء تبدأ من الشرق بحي المساليت، ثم يليه حي العرب، ثم حي النوبا، ثم حي الفور، ثم حي مختلط نسبيا، ثم يليه حي الجنوبيين، ثم حي القرعان، ثم حي البلالة، وأخيرا حي الفلاتة في نهاية المنطقة الغربية(4). وقد كان مجمل سكان هذه الأحياء من المصادر العشر،ة التي تناولناها من قبل، والتي رفدت مايو بالسكان منذ نشأة المدينة في أكتوبر 1970م. ومعلوم أن هذه الجزء من المدينة بعد أن تم تخطيطه قسم إلى مربعات وحارات. وتم تجاوز جميع المسميات القبلية لها رسميا، ولكنها ما تزال كثيرة الاستخدام في الحياة اليومية العامة.
ثانيا: مايو الجديدة (الامتدادات) ( 1983 – 2009 ): وهذا الجزء من المدينة يختلف في نشأته عن مايو القديمة، إذ حيث أنشيء، في الغالب، بسبب قدوم نازحين من جميع أنحاء السودان، من أولئك المتأثرين بالحرب الأهلية التي تجددت في جنوب السودان في عام 1983م، وقامت في جبال النوبا في عام 1985م(5)، وفي جنوب النيل الأزرق، وشرق السودان، وفي ولايات دارفور. ومن أولئك المتأثرين بكوارث طبيعية كالجفاف والتصحر والزحف الصحراوي، لا سيما ذلك الجفاف، الذي ضرب دول إفريقيا جنوب الصحراء في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، الذين قدموا من دارفور وكردفان، وبعض دول وسط وغرب إفريقيا.
ويمثل الشق الأول (المتأثرون بالحرب الأهلية في الجنوب وجبال النوبا خاصة) عددا معتبرا من الجنوبيين من دينكا، ونوير، وشلك، وباري، وغيرهم من قبائل الاستوائية الكبرى (قبل انفصال الجنوب عام 2011). كما يمثل عددا معتبرا من أهالي جبال النوبا، من: نيمانق، وتيرا، وميري، وشات، وغيرهم. ويمثل الشق الثاني (المتأثرون بالجفاف والتصحر والزحف الصحراوي ) عددا معتبرا من سكان دارفور، وكردفان، ووسط وغرب إفريقيا، من فور، وزغاوة، ومساليت، وتاما ، وبرقو، وبرنو، وهبانية، ورزيقات، ومعاليا، وسلامات، وغيرهم كثير.
وهناك شق ثالث منسيّ لا يكاد يذكره أحد، وهو أن مايو الجديدة استقبلت في فترات متتابعة أناسا من دول مجاورة للسودان كأوغندا، والكنغو الديمقراطية، وإفريقيا الوسطى، وغيرها، قدموا لأسباب مختلفة، لعل أهمها ظروف الحروب والصراعات، التي مرت وتمر بها أقطارهم، لكنهم ذابوا في مجتمعات مايو الجديدة، وانمحت ارتباطاتهم ببلدانهم، التي قدموا منها بصورة متسارعة.
ولكي تتضح صورة نشأة مايو الجديدة وتطورها، التي تعنينا في هذا المقال- أكثر من مايو القديمة، فإنه يتوجب أن نخصها بالتفاصيل في الفقرات التالية.
يعد النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي (1983- 1985) نقطة تحول مهمة في حياة مدينة مايو، إذ شهدت بعض أطرافها لا سيما الجزء الجنوبي منها، ظهور امتدادات بدأت شكلها الأول عشوائية غير آمنة، وقد كان عمارها من أولئك الذين تأثرت مناطقهم بصورة كبيرة من تجدد الحرب الأهلية في جنوب السودان، ومنطقة جبال النوبا، ومنطقة جنوب النيل الأزرق، وشرق السودان، وهؤلاء القادمون الجدد يتميزون، عن سكان مايو الآخرين، بكونهم قدموا إليها من مناطقهم الأصلية مباشرة، دونما محطات ذات ارتباط جوهري كبير بولاية الخرطوم، التي ترجع إليها الغالبية العظمى من سكان مايو، بحكم أنها كانت محطة أساسية لهم قبل قدومهم إلى مايو.
كما شكل منتصف التسعينات من القرن الماضي (1994 على وجه التحديد) نقطة تحول مهمة أيضا في حياة مدينة مايو، حيث بدأ فيه تخطيط المدينة (وهذه العملية مستمرة حتى وقت قريب)، وقد ترتب على هذا التخطيط قيام أحياء جديدة أتبعت لمايو القديمة. ومعظم سكانها (مايو الجديدة) ممن تأثرت منازلهم بعملية التخطيط، فوزعت الأحياء الجديدة للذين تحولت منازلهم إلى شوارع وميادين وغير ذلك من مايو القديمة. كما وزعت على كثيرين كانوا يسكنون مايو القديمة في بيوت مستأجرة.
إن أحياء مايو الجديدة (المخططة) تختلف عن امتداداتها (لا سيما غير المخططة) في مسألة جوهرية، هي أنها أنشئت أول ما أنشئت، في عام1994م وما بعده، مخططة، ولكن الامتدادات، التي ظهرت بصورة واضحة في عام 1983م وما بعده، كما أشرنا من قبل، بدأت عشوائية غير مخططة، وقد خطط بعضها، ويجري تخطيط البعض الآخر. ويختلف سكان الأحياء الجديدة اختلافا شديدا عن الامتدادات. فالأحياء سكانها من مختلف القبائل، ولا يمكن تسمية قبيلة بأنها غالبة في حي ضمنها، لأن تركيبتها السكانية تكاد تكون من جميع القبائل القديمة المكونة لمايو القديمة، جمعتها طبيعة التخطيط. أما الامتدادات، فيغلب عليها قبائل قادمة من جنوب السودان، وأخرى قادمة من منطقة جبال النوبا.
هذا، بالإضافة إلى أن مدينة مايو أخذت تتأثر بما يدور في دارفور من حرب أهلية بدأت في أبريل 2003م، حيث قدم عدد من النازحين إلى بعض امتداداتها (تم ترحيل معظمهم إلى أم درمان)، وقد تأثر من أحياء المدينة القديمة، حي الفور خصوصا، الذي اكتظ بعدد معتبر من هؤلاء النازحين.
الحق أن سكان مايو الجديدة، الذين قدموا من مناطقهم، التي تجددت فيها الحرب، وضربتها الكوارث الطبيعية- كان يحدوهم أمل كبير في أن يجدوا في مدينة مايو ما فقدوه من استقرار وأمن في مناطقهم، وأن يجدوا، أيضا، حلاً لما أصابهم من جوع ومسغبة، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة في هذين المضمارين، وهم على مرمى حجر من مناطق، تتمتع بخدمات هم محرومون منها. وقد أكسبه هذا نوعا من الإحباط واليأس المولدين.
نخلص فيما يخص تناولنا لمدينة مايو بشقيها القديم والجديد إلى الآتي:
1- أن أحياء مايو القديمة متجانسة قبلبا بسبب طبيعة تكوينها، التي قامت على أيدي شيوخ وسلاطين اقتضت المصلحة وقتها أن تسكن كل قبيلة في مكان محدد، لحفظ الأمن والاستقرار. وقد ساعد هذا في إيجاد مجتمعات متجانسة، ساهمت في ممارسة الثقافة الخاصة بكل مجتمع إلى آمد.
2- أن أحياء مايو الجديدة المخططة غير متجانسة قبيليا، بسبب طبيعة تأسيسها، التي مثلت تعويضا لتخطيط الأحياء القديمة لمايو المزدحمة. وقد أدى هذا إلى الحاجة إلى ثقافة وسيطة للتكيف مع الوضع الجديد غير المتجانس.
3- أن أحياء مايو الجديدة غير المخططة متجانسة قبليا، بسبب طبيعة تكوينها التي قامت على أيدي شيوخ وسلاطين أنيط بهم حفظ الأمن ورعاية شؤون أفراد قبائلهم، وهذا لا يتم إلا في ظل مجتمعات متجانسة لهم. وقد ترتب على ذلك ارتباط قوي بالثقافة المحلية، وهذا الارتباط ما يزال قويا تحفل به أرض الواقع.
واستنادا على ذلك يمكن القول إن المجتمعات المتجانسة في مدينة مايو هي الغالبة، وهذا يحفظ لها قدر من الخصوصية الحميدة (بالنسبة لأصحابها)، ولكن إذا نظرنا إلى الوجه الآخر من هذا التجانس- فسنجد أن هذه الخصوصية، في الغالب لا تشجع على الاندماج والانصهار في مجتمع العاصمة (والاندماج والانصهار مطلوبان على مستوى المدن والعواصم حتى تستمر الحياة سلسة)، مما يجعل بعض مجتمعات مايو أقرب إلى الجزيرة المعزولة، التي ربما تساعد في ازدياد فجوتها الاجتماعية والاقتصادية عن مجتمع العاصمة؛ فيترتب على ذلك الإحساس بالغبن.
بعد أن تناولنا طبيعة نشأة مدينة مايو بشقيها القديم والجديد، فإن هذه الصورة لن تكتمل إلا بتناول طبيعة التركيبة الإثنية- اللغوية لهذه المدينة.
طبيعة التركيبة الإثنية- اللغوية لمدينة مايو:
تحتل مدينة مايو، حاليا، بشقيها مايو القديمة ومايو الجديدة (المخططة وغير المخططة) مساحة تقدر بـ 40 كلم مربع، ويسكنها بحسب إحصاء السكان لعام 2008، 761.000 نسمة، غير أن هذا العدد غير شامل لسكان الأحياء غير المخططة، مما يعني أن عدد السكان مرشح للارتفاع ليصل إلى حوالي مليون نسمة. كما أن بالمدينة 29 حيا، منها 26 حيا مخططا، و3 أحياء غير مخططة (يجري تخطيطها حاليا)، وذلك بإجمال عدد منازل يقدر بـ 11931 منزلا للأحياء المخططة، و26871 للأحياء غير المخططة، يساوي ما جملته 38802 منزل لكل مدينة مايو(6).
وإذا انتقلنا لتناول التركيبة الإثنية- اللغوية لمدينة مايو بشكلها الحالي، ابتداء بالجزء الإثني، وارتكازا على دراسة صدرت لنا عن التحول اللغوي للمجموعات الإثنية في هذه المدينة(7)، فإن عدد الجماعات الإثنية، التي توجد فيها تقدر بحوالي 99 جماعة إثنية، تتحدث حوالي 60 لغة سودانية محلية. وقد قمنا بتقسيم تلك الجماعات الإثنية إلى خمس مجموعات رئيسة توحي بقدر من الانسجام والتوافق (بالإضافة مجموعة سادسة غير متجانسة قليلة العدد رأينا استعبادها هنا)، وذلك على النحو التالي:
أولا: مجموعة وسط وغرب إفريقيا، التي تضم 13 جماعة، هي: إرينقا وبرقو وبرنو وتاما وبلالة وتاما وتشادي (غير محددة) وزبرما وسنغالي (غير محددة) وشناقيط وفلاتة- فولاني وقرعان وهوسا، ويمثل فيها الهوسا والبرقو والبرنو والبلالة أعدادا معتبرة.
ثانيا: المجموعة العربية، التي تضم 29 جماعة، أهمها حضورا عدديا في المدينة السلامات والمسيرية والرزيقات والبقارة والجعليون والبديرية وبني هلبة والشويحات والحمر.
ثالثا: مجموعة جبال النوبا، التي تضم 26 جماعة، أهمها حضورا عدديا في المدينة النيمانق وأنقولا وشات وكادقلي وكندرما ومساكين وتيرا وكرنقو ومورو.
رابعا: المجموعة الدارفورية، والتي تضم 9 جماعات، هي برتي وتنجر وداجو وزغاوة وفور ومراريت ومساليت ومسبعات وميما، ويمثل فيها الفور والداجو والمساليت أعدادا معتبرة.
خامسا: مجموعة جنوب السودان، والتي تضم 12 جماعة، هي أشولي وباري وباريا ودينكا وزاندي وشلك وفجلو وكاكوا ولاتوكا ومادي ومورو ونوير، ويمثل الدينكا والشلك واللاتوكا أعدادا معتبرة.
ويستنتج من استعراضنا السابق للتركيبة الإثنية لمدينة مايو كثرة الجماعات الإثنية وتنوعها، وإذا قارنا ذلك بما ذكرنا من قبل من أغلبية تجانس مجتمعات مدينة مايو، فإن هذا يعقد من الوضع من منظور مسألتي الاندماج والانصهار القوميين.
أما لغوياً، فإن هناك، كما أشرنا سابقا، حوالي 60 لغة متحدثة تساهم فيها مجموعة وسط وغرب إفريقيا بـ 7 لغات، وتساهم فيها المجموعة العربية بلغة واحدة، وتساهم فيها مجموعة جبال النوبا بـ 28 لغة، وتساهم فيها المجموعة الدارفورية بـ 5 لغات، وتساهم مجموعة جنوب السودان بـ 11 لغة، بالإضافة إلى لغتين من شمال السودان ولغتين عالميتين ولغة من جنوب النيل الأزرق.
ويجب أن لا يفهم أن هذا العدد القائم على عشرات اللغات المتحدثة في مدينة مايو على قدم المساواة من الاستخدام، إذ الواقع يكشف غير ذلك، حيث إن هناك خمس لغات، يمكن اعتبارها ذات حضور معتبر في مجتمعات مايو(في مجالي التحدث كلغة أولى وثانية)، وهذه اللغات هي:
1- اللغة العربية.
2- لغة الهوسا.
3- لغة الفور.
4- لغة البرقو.
5- لغة الدينكا.
نستنتج مما تم عرضه- أننا نقف أمام تركيبة إثنية- ولغوية معقدة ومتشابكة، تتخذ من مدينة مايو مأوى لها، جمعتها في هذا المكان ظروف متعددة، حتم عليها الواقع التعامل مع تلك الظروف، ومن هنا يحق لنا أن نسأل عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لتلك التركيبة السكانية، حتى نعرف هل لهذه الأوضاع أثر على حياة هذه التركيبة إيجابا وسلبا؟
طبيعة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان مدينة مايو (نظرة مدخلية):
من الصعوبة بمكان، الحكم بأوضاع اجتماعية واقتصادية محددة لسكان مدينة قوامها ما يقارب المليون من البشر، فيهم الغني والفقير، وفيهم التاجر الكبير والعامل ذو الدخل المحدود، وفيهم الذي يتمتع بخدمات كبيرة والذي لا تعرف الخدمات طريقا له.
إن المتجول في مدينة مايو، لا سيما في الأحياء القديمة المخططة، ليرى بأم عينه التطور الاقتصادي والاجتماعي، الذي تشهده هذه المدينة، التي تحتضن داخلها عددا من الأسواق المهمة في منطقة جنوب الخرطوم مثل: “سوق 6 القديم”، و”سوق 6 الجديد”، وإن كان عند البعض أن ما يعرض في هذه الأسواق من أحدث ما توصلت إليه الثورة التقنية من أجهزة الكترونية وغيرها، لا يعكس الوضع المعيشي للمنطقة التي تقع فيها مايو(8).
كما يوجد في مايو حوالي 400 مرفق خدمي، ومؤسسة ذات ارتباط بالتعليم، والصحة، والتوعية، والعبادة، والرياضة وغير ذلك(9). وتفاصيل ذلك أن بالمدينة حوالي ستين مدرسة أساس، وحوالي ستين مسجد وزاوية، وحوالي إحدى عشرة كنيسة… إلخ، هذا بالإضافة إلى أن الارتباط بأماكن العمل في مناطق ولاية الخرطوم، لمن لهم ارتباط، أصبح سهلا ميسورا قوامه عشرات “الحافلات”، التي تملأ شوارع مايو الكبيرة جيئة وذهابا، بالإضافة إلى أكثر من 6000 كارو، ومئات الركشات التي تعمل على نقل البشر في أحياء مايو المختلفة، وقد كان التواصل بين مايو ومناطق ولاية الخرطوم المختلفة، وبين أحياء مايو المختلفة، من المعضلات، التي ظلت تواجه سكان المدينة منذ نشأتها.
وفي المقابل فإن المتجول لأحياء مايو غير المخططة (مثل أحياء الوحدة، ومايو السلام، والحارة 9 جنوب)، الراصد لتركبته السكانية وحركتها- ليجد نفسه أمام معطيات جديدة عن المدينة، إذ تبرز له جليا علامات تنامي ظاهرة الفقر والفقراء كأوضح ما يكون.
ولعل من أهم مظاهر الفقر، التي تدل على تنامي هذه الظاهرة في أحياء مايو غير المخططة الآتي:
أولا: طريقة تشييد المنازل، إذ إن هذه المنازل عبارة عن “رواكيب” مسقوفة بالجوالات والكراتين والأقمشة البالية والمشمعات القديمة الممزقة.
ثانيا: الكثافة السكانية العالية، إذ إن المنازل بالأحياء مكتظة بالسكان، لا سيما فئة الأطفال وفئة الشباب.
ثالثا: انعدام الخدمات، لا سيما خدمات المياه، والصحة، والكهرباء، وقد ترتب على ذلك ، فيما يخص المياه، مثلا، حركة دؤوب لتجارة المياه عبر الكاروهات و”الجيزان”، وهذه المياه في الغالب غير صالحة للشرب، أو مشكوك في صلاحيتها.
رابعا: مشاهد العري للأطفال خاصة، ومشاهد الذين يلبسون ملابس قديمة بالية وممزقة ومتسخة.
خامسا: تردي الأوضاع البيئية والصحية، وما يتبعها من استشراء رائحة مخلفات الإنسان، وانتشار رائحة الخمور البلدية.
سادسا: البطالة المقنعة، لا سيما وسط فئة الشباب، التي تتسكع في الشوارع بلا هدف، كما تستوعب البعض منهم ظاهرة حديثة على المنطقة تسمى بـ “أندية المشاهدة”.
هذا، بالإضافة إلى العديد من المظاهر الأخرى التي لا تخطؤها العين، والتي تدل على تنامي ظاهرة الفقر والفقراء في هذا الجزء من المدينة. فأصبح جراء ذلك غير آمن؛ مما أحاله إلى وكر كبير للجرائم المختلفة.
الحق أن هذه الأوضاع البيئية المتردية، والصحية المزرية- يمكن أن تقبل لمنطقة لم يمض على تعميرها بالسكان سنة أو حتى عشر سنوات، ولكن من غير المقبول أن تظل منتقلة من سييء إلى أسوأ، وقد مضى على ظهورها إلى الحياة عقود عديدة
وعلى ضوء ذلك تبقى المحصلة النهائية لتلك الأوضاع أن تصير المنطقة مرتعا لنمو الفوضى، وتربة خصبة للجريمة، ولإنتاج أشكال جديدة من العنف، خصوصا الحضري منه، الذي تفرزه ضواحي المدن وأطرافها ليس في مدن السودان فحسب، وإنما في عدد معتبر من العواصم الإفريقية، والذي تقف من ورائه أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية تحتاج الدول للوقوف عندها، حتى لا تكون خصما على الاستقرار والأمن في الأقطار بصورة عامة، وفي المدن الكبيرة والعواصم بصورة خاصة.
خلاصة:
نخلص مما تم استعراضه في هذه الورقة إلى النقاط الجوهرية التالية:
أولا: إن طبيعة نشأة مدينة مايو في عهدها الأول (1970 – 1982) كانت في الغالب، عبارة عن تهجير قسري فيه الكثير من الغلظة والصعوبة والإهانة، وقد تم هذا التهجير إلى منطقة ليست بها خدمات ولا أمن، مما كان له أثره النفسي والاجتماعي العميق على المهجّرين، ومن ثم ترتب على ذلك إحساس عندهم متوارث بالغبن(المكبوت والمعلن)، لا سيما، أن مناطقهم التي أجلوا عنها صارت لاحقا من المناطق المتميزة في العاصمة. كما أن طبيعة نشأة وتطور المدينة في عهدها الثاني (1983 – 2009)- ساهمت في مزيد من المجتمعات المتجانسة إثنيا ولغويا؛ مما خلق منها جزرا معزولة، لا تشجع على الاندماج والانصهار في مجتمع العاصمة (من ثم مجتمع السودان القومي).
ثانيا: إن طبيعة التركيبة الإثنية- اللغوية لمدينة مايو المتنوعة والمتشابكة، تعقد الوضع من منظور مسألتي الاندماج والانصهار القوميين.
ثالثا: إن طبيعة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان مايو بما تكتنفه من مظاهر تنامي ظاهرة الفقر والفقراء، ومن الكثافة السكانية العالية الفقيرة المعدمة (التي لا يوجد قربها متنزه الترويح والتنفيس)، وبما تفتقر إليه من خدمات حياتية ضرورية، وبما تشهده من تردي في الأوضاع الصحية والبيئية، ومن بطالة مقنعة… إلخ، تساهم في إيجاد منطقة غير آمنة، تؤثر على ما حولها من مناطق.

هوامش وإحالات مرجعية:
1- الحزام الأخضر واحد من معالم ولاية الخرطوم المندثرة، التي لم يتبق منها إلا جزء قليل تتضمنه مدينة اليرموك الصناعية بجنوب الخرطوم. أما الغالبية العظمى من المساحة، التي كان يغطيها هذا الحزام فقد تم توزيعها خطة إسكانية في فترات متلاحقة، ومن أشهر الأحياء التي قامت خصما على مساحة الحزام، حي امتداد أبو آدم، الذي أنشيء في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وحي الأزهري في منتصفها، وحي الإنقاذ في أوائل التسعينات منه، وعدد معتبر من المصانع والشركات.
2- مصادرنا مجموعة مقابلات لعدد من الرواد الذين قدموا إلى مايو منذ نشأتها، وممن لهم معرفة بتاريخها مثل حسان كبشور رقيق، وآدم إسحاق الوالي، ومبارك سحور، وإدريس محمد سليمان، وبيتر ياي… إلخ. وقد تمت هذه المقابلات في شهري مارس وإبريل من العام 2008م بمناطق مختلف في مدينة مايو.
3- مصادرنا مجموعة المقابلات المشار إليها.
4- أحمد علي سبيل (1989): الهجرة من جبال النوبا إلى العاصمة، إصدارات شعبة البحوث والنشر، المركز الإسلامي الإفريقي في الخرطوم، الخرطوم: دار المركز الإسلامي الإفريقي للطباعة، ص (35).
5- شرف الدين بانقا (2001): النازحون وفرص السلام بالتركيز على تجربة ولاية الخرطوم، الخرطوم: دار جامعة إفريقيا العالمية للطباعة، ص (36)، حين يشير إلى أن أضخم نزوح يشهده السودان في تاريخه، هو ذلك النزوح لمواطني الولاية الجنوبية، نتيجة للاقتتال الدائر والصراعات الدموية في جنوب البلاد، وقد أدى إلى كثرة عدد النازحين. لقد بدأ النزوح المتزايد، وفقا لبانقا، بعد عام 1983م، حيث دفعت ظروف الحرب وفقدان الأمن والاستقرار الملايين. ولم تكن الولايات الجنوبية وحدها التي عانت من الصراعات المسلحة والنهب المسلح والاضطراب الأمني، ولكن مناطق غرب وشرق السودان ومناطق جبال النوبا قد عانت من الاحتراب، واضطر كثير من سكان هذه المناطق الهرب إلى الولايات الشمالية ووسط السودان.
6- هذه المعلومات المهمة تم أخذها من الوحدة الإدارية للنصر(مايو) في صورة وثائق ستنتشر كملاحق بدراستنا عن مدينة مايو التي تدرس عملية التحول اللغوي للمجموعة الإثنية في المدينة، والتي ستصدر قريبا.
7- كمال محمد جاه الله، التحول اللغوي للمجموعات الإثنية في مدينة مايو بجنوب الخرطوم، البحث المشار إليه في الهامش أعلاه.
8- أحمد خليل (2008): “مايو مدينة العمال الأولى”، صحيفة أجراس الحرية، إصدار شركة مسارات جديدة للإنتاج الإعلامي، العدد (2)، الثلاثاء 8 إبريل، ص(4).
9- معلومة أخذت عن وثيقة مهمة تم استلامها من الوحدة الإدارية للنصر، ستنشر لاحقا في بحثنا المشار إليه عن التحول اللغوي للمجموعات الإثنية في مدينة مايو.

(عن عمل ميداني تم في المدينة 2008 و2009)
….

#منصة_اشواق_السودان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.