د. السر احمد سليمان يكتب : *التلاوة ليست القراءة فقط*
ارتبطت لفظة التلاوة بقراءة القرآن الكريم، ولذلك سميت حلقات قراءة القرآن الكريم بحلقات التلاوة، فهل التلاوة هي القراءة المعهودة؟ وهل مجرد قراءة آيات القرآن الكريم هو التلاوة؟
من الناحية اللغوية فإنّ كلمة التلاوة تعني الاتباع؛ “يُقَالُ: تَلَوْتُهُ إِذَا تَبِعْتَهُ” (ابن فارس). فهذا المعنى اللغوي لا يعني القراءة! ومما يؤكد المعنى اللغوي للتلاوة بمعنى الاتباع ما ورد في قول الله عزّ وجلّ في سورة الشمس: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا (2)} أَيْ: والقمر إذا تبع الشمس (الطبري).
ومن جانب آخر عندما نتتبع كلمة التلاوة في القرآن الكريم والتي وردت بصيغ لفظية مختلفة في 63 موضعا نجد أنّها لا تدل على معنى القراءة فقط كما هو مستخدم الآن، ولكنها تشير إلى دلالات أكثر عمقا ومنها:
– أولا: التلاوة تعني الاستيعاب والفهم والعلم بما تتم قراءته، كما ورد في قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُون}[البقرة:113]. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: {كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فَإنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عالِمًا لِكَيْ يَصِحَّ هَذا الفَرْقُ، فَبَيَّنَ الله تَعالى أنَّهم مَعَ المَعْرِفَةِ والتِّلاوَةِ، إذا كانُوا يَخْتَلِفُونَ هَذا الِاخْتِلافَ فَكَيْفَ حالُ مَن لا يَعْلَمُ؟ (الرازي).
وبناء على هذا فإنّ قراءتنا للقرآن الكريم ينبغي أن تكون بمستوى معرفي عميق يساعد في استيعاب وفهم وتعلم ما نقرأه والعلم بما يهدي إليه.
– ثانيا: التلاوة تعني التطبيق العملي لما يتم تعلمه، كما ورد في قول الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون}[البقرة:121]. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ وَيَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَلَا يُحَرِّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ (ابن كثير).
ولذلك ورد وصف الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم من العمل بما يأمرون به غيرهم مع أنّهم يتلون الكتاب بأنّهم لا يعقلون كما ورد في قول الله عزّ وجلّ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون}[البقرة:44]. وهذا توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنّكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه (الزمخشري).
أي: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ -يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ-أَنْ تَنْسَوْا أَنْفُسَكُمْ، فَلَا تَأْتَمِرُوا بِمَا تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، وَتَعْلَمُونَ مَا فِيهِ عَلَى مَنْ قَصر فِي أَوَامِرِ اللَّهِ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِأَنْفُسِكُمْ؛ فَتَنْتَبِهُوا مِنْ رَقدتكم، وَتَتَبَصَّرُوا مِنْ عَمَايَتِكُمْ (ابن كثير).
وقد وردت لفظة التلاوة مقرونة بالعمل بصورة مباشرة في كثير من الآيات القرآنية، ومنها قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور}[فاطر:29]. وقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين (114)}[آل عمران: 113 -114]. أَيْ: يَقُومُونَ اللَّيْلَ، وَيُكْثِرُونَ التَّهَجُّدَ، وَيَتْلُونَ الْقُرْآنَ فِي صَلَوَاتِهِمْ (ابن كثير).
وبناء على هذا فإنّ التلاوة تعني العمل بما يتم تعلمه، ولهذا فعلينا الانتباه لهذا المفهوم العملي للتلاوة وذلك من أجل الانتفاع بما تتم قراءاته وفهمه بالانتقال به إلى مستوى التطبيق والعمل.
– ثالثا: التلاوة تعني الإرشاد والتوجيه للآخرين بما ينفعهم، وذلك من خلال دعوتهم وتبليغهم؛ والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة منها قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون}[الأنعام:151]. وقوله سبحانه وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون}[البقرة:151].
وتأكيدا للمعنى الإرشادي التوجيهي للتلاوة أنّها قد وردت للإجابة عن الأسئلة من أجل التعليم والتوضيح؛ قال الله عزّ وجلّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا}[الكهف:83].
وينبغي الانتباه إلى أنّه قد يكون التوجيه ضارا إذا لم يرتبط بالوحي، فقد وردت كلمة التلاوة التوجيهية مرتبطة بما يقوم به الشياطين من تعليم السحر وغيره من الأمور الضارة؛ قال الله عزّ وجلّ: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ..}[البقرة:102].
إذن التلاوة تدل على مفهوم أكثر عمقا من مفهوم القراءة المعهودة التي تتمثل في المرور على الحروف والكلمات؛ فالتلاوة تعني الاستيعاب والفهم العميق والتعلم، كما تعني التطبيق العملي لما يتم تعلمه؛ كما تعني القيام بالإرشاد والتوجيه والتبليغ والدعوة بما فيه الخير للآخرين.
السر أحمد سليمان