حوارات حول الأفكار…(139) ✍️حيدرمعتصم *غياب الدولة: بين وَهْم المؤسسات وغياب المرجعية*
حوارات حول الأفكار…(139)
✍️حيدرمعتصم
*غياب الدولة: بين وَهْم المؤسسات وغياب المرجعية*
رغم كثافة الحديث عن “الدولة” في السودان، إلا أن ما نعيشه اليوم ليس حضورًا للدولة، بل حضورًا لوهمها. فوجود هياكل إدارية تحمل أسماء وزارات ومؤسسات لا يعني بالضرورة أن الدولة موجودة فعليًا. فالدولة — بمعناها الجوهري — ليست مجرد كيان شكلي، بل هي منظومة متكاملة من الهياكل والمؤسسات التي تحكمها مرجعية دستورية واضحة ومتوافق عليها، تحدد وظائفها وتضبط علاقتها ببعضها البعض، وتضمن خضوعها الكامل لإرادة المجتمع ومصالحه العليا.
من هنا، فإن غياب الإطار الدستوري الموحد يجعل تلك الهياكل مجرد كيانات متوازية أو متنازعة، تتحول بمرور الوقت إلى أدوات للصراع لا أدوات للحكم الرشيد. وعليه، فإن ما نواجهه اليوم في السودان لا يمكن توصيفه كأزمة سياسية عابرة، بل هو غياب للدولة ذاتها، تحديدًا في بعدها السيادي والتنظيمي.
مظاهر الغياب:
انعدام المرجعية القومية المشتركة: تم اختطاف المرجعيات من قبل الطائفية والأيديولوجيا والجهوية، ما أدى إلى انهيار الإطار المرجعي الوطني الذي يوحد المؤسسات ويصوغ علاقتها بالمجتمع.
انقسام الهياكل وتضارب السلطات: لا رقابة تشريعية فاعلة، ولا مساءلة قضائية مستقلة، ولا مؤسسات مجتمعية تمتلك القدرة على التأثير والمحاسبة. وهذا يُنتج حالة من “اللادولة”، حيث تتصارع المكونات السلطوية دون أرضية جامعة.
تفكك بنية الأمن القومي: مع غياب الدولة، تغيب المفاهيم الأساسية المرتبطة بالأمن القومي، كالوحدة الوطنية، والسيادة على القرار، والأمن الغذائي، والحماية الاقتصادية، والاستقرار المجتمعي.
الأمن القومي: مرآة الدولة الغائبة
الأمن القومي ليس مجرد بند عسكري أو سياسي، بل هو انعكاس مباشر لمدى وجود الدولة كمؤسسات متكاملة متماسكة. وما يحدث في السودان اليوم من انهيارات أمنية، وتدخلات خارجية، وفوضى داخلية، هو نتيجة طبيعية لفقدان الدولة كفاعل منظم لحياة الناس، وكمحدد للعلاقة بين المجتمع والسلطة، وبين الداخل والخارج.
من الإصلاح إلى التأسيس: طريق الإنقاذ
إن محاولة ترميم هياكل الدولة الحالية دون معالجة جذرية للمرجعية التي تحكمها، يشبه محاولة إصلاح منزل آيل للسقوط دون إعادة وضع أساساته من جديد. لذلك فإن الحل ليس إصلاحًا ولا تغييرًا جزئيًا، بل هو إعادة تأسيس الدولة من جذورها، انطلاقًا من عقد اجتماعي جديد يتوافق عليه السودانيون، لا يفرضه تكتل سياسي ولا تحاصص أيديولوجي.
وهذا التأسيس لا بد أن يرتكز على:
الاعتراف الشعبي بأن الدولة الحالية غائبة، وأن ما نراه هو أشلاء مؤسسات بلا نظام موحد.
استعادة السيادة المجتمعية عبر بناء مؤسسات مدنية حقيقية، فاعلة ومستقلة، تراقب وتحاسب وتُسائل.
إعادة تعريف الدولة في الوعي الجمعي، باعتبارها أداة لتحقيق مصالح الشعب، لا كيانًا تتقاسمه النخب أو تعبث به التكتلات.
وضع الأمن القومي في قلب التعريف الجديد للدولة، كمنظومة متكاملة لحماية الإنسان السوداني أرضًا، وهوية، وموردًا، ومكانة.
2مارس2024