منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

*فرق الموالف حار : شجون كردفاني فاته الخريف* د. عثمان البشير الكباشي

0

*فرق الموالف حار : شجون كردفاني فاته الخريف*

د. عثمان البشير الكباشي

 

من طيرة أم بشار
جاني السلف قطار
اتلموا يا عمار
فرق الموالف حار
(شاعرة كردفانية )

ما إن يحل الخريف إلا وتسافر روحي الى كردفان ، أنتهز أيما فرصة للمغادرة الى هناك ولو ليوم أو اثنين ، وإن لم أجد مبررا للسفر فخريف كردفان نفسه سبب كافي تشد اليه الرحال .
وكأني المعني بقول ذلك البدوي الذي وافاه موسم الخريف في المدن فأنشد :
الخبر الأكيد الليلة أحمد جابو
وقالوا الوادي سال واتقرنن تبابو
إن سألونا نحن قعادنا شن اسبابو
لا مصروف ولازولا بنتسلابو

كما تجدني موافق حد التطابق لابن أم مرحي شمال أم درمان الشاعر العباسي حينما أصدر شهادته في حق غرب السودان:
الغرب زين وعندي عليه الأدلة
تأوي إليه الشموس وتشرق منه الأهلة .
ومن من الناس لم تهزه أبيات العباسي في قصيدة يوم التعليم الشهيرة وهو يحادث البرق ويتأوه شوقا لحمرة الشيخ حاضرة الكبابيش الجميلة :
يابرق طالع ربا الحمرا
وزهرتها
واسق المنازل غيداقا فغيداقا
ومن إذا سمعوا من نحونا خبر
والليل داج أقاموا الليل ايراقا

هذا الحنين الجارف لبلاد كردفان ليس محض فصاحة شعراء ولا تزيين حديث .
ولكن مبعثه أن كردفان تصير جنة الله في أرضه إذا تنزل عليها الغيث واخضرت أوديتها، وأينعت ثمارها ، ودر ضرعها ، وجد زراعها وهاشوا على قول شيخ شعراء السودان عبد الله الشيخ البشير.
الصيف هناك قاسي ، ولا شيئ يخفف وطأته على الإنسان والحيوان، إلا إنتظار الخريف . تعلم الناس من دورة الحياة هذه انتظار الفرج هذه العبادة العظيمة .
الخريف يعني عند الكردافة هو الأمل في الخضرة بعد اليباس واللين بعد الجفاف.
بمجرد نزول الأمطار [وطيرة أم بشار ]تنتعش الآمال وتتفتح زهرات الفأل الحسن ، فماذا بعد الخريف إلا [ الدرت ] في اكتوبر ، حيث يتجلى مثال السودانيين الذين يربطون الدرت بالعافية وفق مقولتهم الفصيحة : [ عافية درت ] . كيف لا ؟ وهو موسم حصاد الزرع وبيع الأنعام التي زالت عنها كربة الصيف وصارت تغري البائع والمشتري .
الخريف لأهل السودان عامة وكردفان ودارفور خاصة هو مصدر الحياة وسبب الأرزاق وما أعظمها وأوسعها وأجودها من أرزاق .
قناعتي قديمة متجددة بأن كل جمل وأرقام ومصطلحات وجدال وجداول ومداولات أهل السياسة والاقتصاد والمال والفنيين والبرلمانات و الصحافة حول الميزانية السنوية للدولة ، يحسمها أمر واحد هو مدى جودة سماء كردفان ودارفور والقضارف في موسم الخريف .
خريف سخي واحد يزهر فيه الزرع ويمتلأ الضرع خير من كل فسفطات وجدليات جماعة الميزانية الحكومية التي ظلت دائما مثل كفن مصعب إن غطت رجله كشفت رأسه .
كردفان ودارفور فيهن خيرات حسان من نعم الله على السودانيين .
دعك من الماس والنحاس والذهب والمعادن النادرة .
دعك من كل هذا ، فأن حديثنا اليوم عن الموارد غير الناضبة إلا ما شاء الله.
الموارد التي لايقوم الاقتصاد العالمي بدونها مثل الصمغ العربي الذي يحتكر السودان 85% من انتاجه العالمي ، وغالبه وأجوده من كردفان .
وتكتمل الصورة في هذا الشأن لو علمنا أن 600 مليار دولار سنويا هى جملة حركة صناعة البيبسي والكوكا كولا ، التي لا تقوم إلا على الصمغ العربي ، وتتوقف تماما اذا توقف .
هل تذكرون كيف أن الحكومة الأمريكية استثنت الصمغ العربي من إجراءات مقاطعة السودان، فعلت ذلك دون حياء ، وأنى لها الحياء ، فالحياء من الإيمان .
من عجب أن الكردفانيين ودولة السودان كلها يعتبرون الصمغ العربي موردا هامشيا!! وفي ذلك أسرار وحكايات يجب أن تكشف ليعلم الناس حكايتنا وحكاية عالم المطففين العالمين مع شجرة المن التي ورد ذكرها في كتاب الله .
لا تقتصر موارد كردفان على الصمغ العربي، فهو أقلها عائدا . ذلك أن حقول وسهول وبوادي كردفان تنتج أجود الأنواع من سلع ومحاصيل عزيزة ومطلوبة لجودتها وفوائدها، منها الحبوب الزيتية الفول السوداني والسمسم والكركدى وحب البطيخ ، والدخن ، والضأن الحمري والكباشي والإبل ، والزراعة الآلية في جنوب كردفان والتي شملت في مرحلة سابقة القطن ومنقة أبوجببهة والقنقليس وووووو .
أما البترول السوداني فهو كردفاني الأصل كما هو معلوم .
لن ينسى الكردفانيون سنوات القحط الكئيبة المقرونة بالجفاف والتصحر والمجاعة التي ضربت ديارهم في العام 1984 فأضطرهم الى النزوح بمئات الآلاف الى العاصمة الخرطوم وبقية أرجاء الوطن .
كان ذاك العام مفصليا في حياة أهل كردفان ودارفور ، وترك فيهم آثارا وندوبا نفسية واجتماعية ستظل تلازمهم دهرا طويلا .
غير أن[ قحط القرن ] على الإطلاق على كردفان ودارفور هو الذي داهمهم في الحرب التي شنها تتار الزمان باسمهم على السودان فكان نصيبهم في دمارها هو الأكبر ، فقد حق في المليشيا تتار العصر، فهم فعلا لا يرعون في سوداني إما ولا ذمة .
يجتهد المزارعون في تلك الديار في انتقاء أفضل البذور وتخزينها في انتظار الخريف ، حتى إذا جاء استودعوها أرضهم التي ما عودتهم الخذلان بأمر ربها .
ولأنهم متوكلون فهم على يقين بأن رزقهم [ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنۢبُلَةٍۢ مِّاْئَةُ حَبَّةٍۢ ۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ] تلك اليقينيات التي استقرت في أنفسهم وهم يتلونها على مر القرون في خلاويهم في ود أب عزة وخرسي وطيبة الزعيتير والمزروب والزريبة والحاجاب والرهد والأبيض وغيرها من مئات الخلاوي التي لا ينافس كردفان فيها كل أرجاء الوطن، وإن كانت بلاد السودان كلها موطن للقرآن بفضل الله ونعمته .
كردفان مثلما تصدر خيرات الأرض صارت تصدر أيضا للسودان أئمة مساجده من أصحاب المقام الكردفاني في التلاوة ، الشيوخ النجوم الزين وصالح ونور الدين ونورين وغيرهم من نجوم المحاربب .
ولكن ما إن حلت الحرب حتى توقف الانتاج في تلك الديار . نهبت المليشيا ما وجدته في المخازن من محاصيل ، ومنعت تصدير المواشي ، وعطلت الزراعة ، وشردت المنتجين .
فلم تعد السفن في بورتسودان تحمل للعالم خيرات كردفان ودارفور لتعود الى أهلها رزقا حسنا .
ولم تعد الأبقار والضأن والإبل يزدحم بها سوق المويلح أكبر أسواق الماشية في الإقليم .
ولم يعد المركوب الفاشري يزين رفوف أسواق أم درمان.
ولم يعد سوق ليبيا والشيخ أبوزيد ضاجا بحركة البضائع التي تغذي غرب السودان بل عدة دول في الجوار الافريقي.
انقطعت أرزاق أهل كردفان وتوقفت مصالحهم ولم تعد في أسواق الضعين ونيالا والجنينة الا منهوبات المواطنين من [ دار صباح ] حتى أن رئيس وزراء المليشيا المدعو التعايشي كان أول قراراته – ويا للعجب – الاستيلاء على المنهوبات وتوريدها في خزينته باعتبارها حقا خالصا لدولة المليشيا دون من قام بنهبها وترحيلها ، العبارات ليست من عندي ولكنها ضمن نص قرار [التعايسي] ، ولا يظنن القارئ أن ثمة خطأ إملائي في الكلمة الأخيرة بين القوسين !!!
إذن يدخل على أهل كردفان ودارفور [الدرت ] الثالث وهم خارج موسم الإنتاج ، خارج دورة الحياة التي اعتادوها لقرون ، لم تنعقد أفراح الزواج لأبناءهم كما ينبغي ، بل تشردوا ، وانتهكت حرماتهم ، ونكل بهم ، وقتل أولادهم بالألوف ، وجرح أضعافهم ، ترملت النساء ، وتيتم الأطفال ، وأذل الرجال !
لقد صدق في الذين ناصروا المليشيا ، الذين جلبوها لديارهم في كردفان ودارفور قول ربنا [ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ]
من كان يتوهم من المليشيا وأتباعها من أحزاب الغفلة والدول الداعمة لهم بالتحريض والمال والسلاح أن غرب السودان سينسي لهم هذه المآسي فهو جاهل لا يعرف كيف تحفر مثل هذه الفظائع والويلات في وجدان الشعوب وذاكرتها وحكاياتها لأجيال وقرون .
إن صحائف التاريخ تنظركم أيها الجاهلون .

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.