*فضيحة عالمية : الإمارات تشن حملة تشويه مأجورة ضد نائب فرنسي معارض لها*
*فضيحة عالمية : الإمارات تشن حملة تشويه مأجورة ضد نائب فرنسي معارض لها*

*الإعلام يكشف فضيحة مدوية لهجوم إماراتي على نائب فرنسي، معارض لسياساتها*
*بتواطؤ من مؤسسات الدولة؛ دفعت أموالا طائلة لشراء ذمم إعلاميين وكتاب وحتى مسؤولين داخل فرنسا..!*
الثلاثاء – 21 أكتوبر 2025
□ في واحدة من أكثر القضايا السياسية والإعلامية غرابة في فرنسا خلال السنوات الأخيرة، انفجرت فضيحة جديدة هزّت الأوساط البرلمانية والصحفية معًا، حين كشف حزب فرنسا الأبية (La France Insoumise) في بيان رسمي صدر في 20 أكتوبر 2025 عن مؤامرة محبوكة تورطت فيها الإمارات العربية المتحدة وجهاز الاستخبارات المالية الفرنسي TRACFIN ضد أحد نوابه البارزين، كارلوس مارتنز بيلونغو. لم يكن الحديث عن سوء فهم أو تسريب عرضي، بل عن عملية ممنهجة جرى فيها تسخير أدوات الدولة الفرنسية لخدمة أجندة النظام الإماراتي، بهدف معاقبة نائب منتخب انتقد سياسات أبوظبي في العلن.
القضية، كما روتها الصحفية ألين روبير في موقع L’Informé، تتجاوز حدود الخلافات السياسية العادية؛ إنها تمسّ صميم العلاقة بين الديمقراطية الفرنسية ونفوذ المال الإماراتي القذر الذي تمدد داخل أوروبا حتى بلغ أروقة الاستخبارات. فحين تتحول أجهزة دولة غربية إلى أدوات ضغط لصالح أنظمة استبدادية، تكون المسألة أبعد من خطأ إداري: إنها إعلان عن تصدّع أخلاقي في صلب مؤسسات الحكم.
من تسريب إلى فضيحة دولة
بدأت القصة في 11 مايو 2023، اليوم الذي نشر فيه النائب بيلونغو كتابه المثير للجدل “الفرنسي الأسود” (Noir Français)، الذي تناول فيه موضوع الهوية والعنصرية في فرنسا من منظور نقدي.
لم تمض ساعات حتى نشرت قناة BFM TV تقريرًا عاجلًا يزعم أن النائب يخضع لتحقيق بتهمة غسل الأموال والاحتيال الضريبي وإساءة استخدام أموال عامة بمبلغ قدره 200 ألف يورو. الخبر انفجر كالقنبلة في الإعلام الفرنسي، وانتقل خلال ساعات إلى كل المنصات تقريبًا. البرامج الحوارية أعادت بث الاتهامات على مدار الساعة، فيما استخدمتها صحف يمينية لتصوير حزب فرنسا الأبية كرمز “للفساد اليساري” الذي يختبئ خلف خطاب العدالة الاجتماعية.
لم يحظ النائب بفرصة حقيقية للدفاع عن نفسه، بينما كانت ماكينة التشهير تعمل بلا توقف. ولم تكتف بعض وسائل الإعلام بنقل التسريب بل أضافت إليه سرديات جديدة: حسابات سرية، تمويلات غامضة، وشبهات تتعلق بجمعيات خيرية. لم يكن أحد يعلم أن كل هذه الاتهامات تستند إلى تقرير مفبرك صادر عن جهاز TRACFIN، الجهة المسؤولة عن مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في فرنسا.
بعد عامين من التحقيقات، في مارس 2025، أعلنت النيابة العامة في نانتير إغلاق الملف بالكامل، مؤكدة عدم وجود أي جرم أو دليل على المخالفات المزعومة. وبالتالي لم يكن بيلونغو مذنبًا؛ بل كان ضحية.
التحقيقات كشفت أن التقرير الذي أطلق العاصفة الإعلامية لم يكن سوى وثيقة مثقلة بالأخطاء والتلفيقات أُرسلت إلى القضاء دون أساس قانوني واضح. ومع ظهور نتائج التحقيق الداخلي داخل وزارة المالية، بدأت الخيوط تتضح: مصدر البلاغ لم يكن داخليًا فحسب، بل كان بتوجيه مباشر من جهات إماراتية انزعجت من مواقف النائب بشأن صفقات الأسلحة ودور أبوظبي في الشرق الأوسط.
في اليوم نفسه الذي أصدر فيه حزب فرنسا الأبية بيانه، أكدت الصحفية ألين روبير أن وفدًا من مسؤولي TRACFIN قام برحلة “غامضة” إلى دبي عام 2023، التقى خلالها بمسؤولين إماراتيين بحضور غيوم فاليت فالا، مدير الجهاز الفرنسي. تلك الزيارة، التي لم تُسجل رسميًا في جدول أعمال الحكومة، أثارت شبهات واسعة حول طبيعة التعاون بين الطرفين، خاصة وأنها جاءت بعد أيام من انتقادات وجهها بيلونغو للإمارات خلال جلسة برلمانية حول تصدير السلاح.
جهاز استخباراتي تحت تأثير المال والنفوذ
لمن لا يعرف، فإن TRACFIN هو اختصار لعبارة Traitement du Renseignement et Action contre les Circuits FINanciers clandestins، أي “وحدة معالجة المعلومات والعمل ضد الدوائر المالية السرية”. وهي ذراع استخبارية تابعة مباشرة لوزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، مسؤولة عن تتبع حركة الأموال المشبوهة ومكافحة الجرائم المالية. بعبارة أخرى، إنها جهاز يُفترض أن يكون فنيًا بحتًا، بعيدًا عن السياسة.
لكن ما كشفه التحقيق يضع هذا الجهاز في قلب واحدة من أخطر فضائح تسييس أجهزة الدولة في تاريخ فرنسا الحديث. فاستعمال TRACFIN كأداة لتصفية حسابات سياسية لا يضرب فقط مبدأ الحياد المؤسسي، بل يفتح الباب أمام سؤال مرعب: من يضمن أن أجهزة الدولة لا تُدار أحيانًا وفق أهواء شركاء أجانب أو مصالح خفية؟
تورّط الجهاز في هذه القضية جاء على خلفية تواصل غير رسمي بين مسؤولين إماراتيين وجهات داخلية فرنسية، يُعتقد أنها تتعامل منذ سنوات مع برامج تعاون أمني واستخباراتي في مجال “مكافحة الإرهاب وتمويله”. تلك البرامج، التي طالما وُصفت بأنها تقنية وبريئة، تحولت مع الزمن إلى قنوات نفوذ خلفية تمكّن أبوظبي من تمرير أجندتها داخل أوروبا تحت شعار الشراكة الأمنية. وما يجعل المسألة أكثر فداحة أن بيلونغو لم يكن شخصية عابرة: كان عضوًا في لجنة البيئة بالبرلمان ومقرراً مشاركًا في متابعة أعمال مؤتمري COP27 وCOP28، أي أنه على تماس مباشر بملفات حساسة بالنسبة للإمارات.
فمن الواضح أن انتقاداته العلنية لدور أبوظبي في قضايا المناخ وحقوق الإنسان أزعجت القيادة الإماراتية التي لا تتسامح مع النقد، حتى لو صدر في برلمان أوروبي. ومن هنا جاءت الفكرة: ضرب المصداقية الشخصية للنائب عبر إغراقه في اتهامات مالية تبدو “مهنية” لكنها مدمرة سياسيًا.
نفوذ إماراتي متزايد في أوروبا
لا تبدو هذه الفضيحة استثناءً في سجل التدخلات الإماراتية في الغرب. فمنذ ما يزيد على عقدٍ من الزمن، تسعى أبوظبي إلى بناء منظومة نفوذ ناعمة وقاسية في آن واحد داخل أوروبا، تجمع بين المال، والإعلام، واللوبيات السياسية، والتقنيات الاستخبارية المتطورة.
في عام 2021، كشفت تسريبات مشروع بيغاسوس أن الإمارات كانت من أبرز مستخدمي برنامج التجسس الإسرائيلي الشهير، وأنها استهدفت به هواتف مئات السياسيين والصحفيين في أوروبا، من بينهم أعضاء في البرلمان الأوروبي وصحافيون فرنسيون. لاحقًا، تأكدت السلطات الفرنسية من أن بعض هواتف صحفييها كانت بالفعل مخترقة، وهو ما جعل أصابع الاتهام تتجه إلى أبوظبي وحلفائها.
وفي بروكسل، تفجرت فضيحة أخرى عُرفت باسم “قطرغيت”، تتعلق برشاوى يُزعم أن دولًا خليجية قدمتها لبعض نواب البرلمان الأوروبي. وعلى الرغم من أن اسم قطر تصدر العناوين، فإن تقارير متعددة أشارت إلى ضلوع الإمارات في تمويل حملات مضادة لتشويه خصومها الإقليميين، وتوظيف تلك القضية لضرب صورة الدوحة. بمعنى آخر، لم تتورع أبوظبي عن استخدام أدوات الضغط السياسي والإعلامي لإسكات كل من يعارضها، سواء في الخليج أو في أوروبا.
ما يجري في فرنسا اليوم هو الوجه الجديد لهذا النفوذ. لم يعد الأمر مقتصرًا على لوبيات ضغط أو تمويل مراكز أبحاث أو حملات علاقات عامة؛ بل تغلغل النفوذ الإماراتي إلى مؤسسات أمنية واستخباراتية. ووفقًا لمراقبين، فإن أبوظبي تستغل شراكاتها الواسعة مع باريس في مجالات الدفاع والطاقة لتوطيد هذا النفوذ. فهي المشتري الأول للأسلحة الفرنسية في الشرق الأوسط، وأحد أهم المستثمرين في قطاعات الطاقة والعقارات الفرنسية. هذه الروابط المالية الضخمة جعلت من الإمارات لاعبًا له وزن غير متناسب مع حجمه الجغرافي، وقادرًا على التأثير حتى في قرارات سيادية داخل فرنسا.
ويبدو أن استهداف النائب بيلونغو جاء ضمن هذا النمط من القمع العابر للحدود، حيث تُمارس الأنظمة السلطوية سلطتها على أراضي الديمقراطيات الغربية نفسها. إن هذا المشهد يعيد إلى الأذهان وقائع مماثلة في دول أوروبية أخرى، حيث رُصدت أنشطة استخباراتية إماراتية ضد منظمات حقوقية وصحافيين مقيمين في لندن وبرلين.
الإعلام الفرنسي بين التواطؤ والصمت:
لم تكن وسائل الإعلام الفرنسية مجرد ناقل للأخبار في هذه القضية، بل كانت جزءًا من المشكلة. فالقنوات التي سارعت إلى نشر الاتهامات ضد بيلونغو لم تكلف نفسها عناء التحقق من صحة المعلومات، ولم تنتظر نتائج التحقيق القضائي. لقد تعاملت مع التسريب وكأنه حكم قضائي نهائي، متناسية أبسط قواعد المهنة.
قناة BFM TV، التي بادرت إلى بث الخبر الأول، أصبحت رمزًا لهذا الانحراف المهني.
فقد كررت القناة مزاعم TRACFIN بلا دليل، وفتحت منابرها لتعليقات ضيوف متخصصين في “مكافحة الفساد” استندوا إلى رواية واحدة. لم تُتح الفرصة لبيلونغو لعرض موقفه أو تقديم وثائقه، بل جرى تحويل القضية إلى محاكمة علنية على الهواء.
بعد عامين، حين أُغلق الملف نهائيًا واعترفت النيابة ببراءة النائب، لم تكرس القنوات ذاتها سوى دقائق قليلة لهذا التطور، وكأنها تخجل من تصحيح خطئها.
أما الصحف التي شنت هجومًا عليه، فقد مرّت على قرار الحفظ بسطور هامشية.
وهذا التباين في المعالجة لم يكن بريئًا؛ بل يعكس ما وصفه حزب فرنسا الأبية في بيانه بأنه “تحالف غير معلن بين بعض المنابر الإعلامية ورأس المال السياسي المتحالف مع أنظمة استبدادية”.
في العمق، أدت التغطية الإعلامية المنحازة إلى تضخيم أثر الحملة التي استهدفت بيلونغو، إذ وجد نفسه محاصرًا بموجة من التنمر الإلكتروني والهجمات العنصرية التي طالت عائلته أيضًا.
يقول النائب في تصريحات لاحقة:
“لقد جرى اغتيال سمعتي ووصفي بالخائن والفاسد من دون أن يسألني أحد عن الحقيقة”.
لكن هذه التجربة، رغم مرارتها، كشفت أيضًا عن هشاشة الإعلام الفرنسي أمام التسريبات الموجهة، وعن مدى سهولة اختراقه من قِبل جهات تمتلك النفوذ والمال.
ففي عالم الصحافة اليوم، يمكن لمعلومة “موثوقة” من جهاز رسمي أن تُسقط سياسيًا خلال ساعات، حتى لو كانت مزيفة من الأساس.
ما بعد الفضيحة: أسئلة السيادة والمحاسبة:
بيان حزب فرنسا الأبية لم يكن مجرد دفاع عن نائب، بل نداء سياسي عميق لإعادة النظر في علاقة فرنسا بالأنظمة الاستبدادية.
فقد طالب الحزب بفتح تحقيق برلماني مستقل حول كيفية استخدام TRACFIN خارج صلاحياته، ودعا الحكومة إلى الكشف عن تفاصيل الزيارة المشبوهة إلى دبي ومحاسبة المسؤولين الذين سهّلوا هذه المؤامرة.
كما أعلن بيلونغو نيته رفع دعوى قضائية بتهمة البلاغ الكاذب والتشهير ضد كل من تورط في إعداد التقرير المفبرك أو ترويجه.
القضية اليوم لا تتعلق ببراءة شخص واحد، بل بمبدأ أساسي في الديمقراطية:
هل يمكن لجهاز تابع للدولة أن يتحرك بتوجيه من قوة أجنبية؟
وإذا كان الجواب نعم، فإلى أي مدى أصبحت السيادة الوطنية هشّة أمام نفوذ المال والمصالح؟
هذه التساؤلات تُعيد فرنسا إلى مواجهة ذاتها. فالدولة التي تتفاخر بأنها حامية قيم الحرية وحقوق الإنسان تجد نفسها مضطرة لتفسير كيف استطاعت دولة استبدادية صغيرة أن تملي عليها تصرفات تمس برلمانيًا منتخبًا.
والنتيجة، في نهاية المطاف، فضيحة دولة بكل معنى الكلمة: جهاز رسمي يعمل ضد مواطنه لصالح حليف خارجي.
لقد تحولت قضية بيلونغو إلى مرآة تعكس أزمة أعمق تعيشها الديمقراطيات الغربية، حيث باتت الحدود بين الشراكة والتحكم، وبين التعاون والاختراق، ضبابية أكثر من أي وقت مضى. فالإمارات التي كانت حتى الأمس القريب شريكًا تجاريًا موثوقًا، أصبحت اليوم متهمة بالتورط في عمليات تجسس وتضليل وتدخل سياسي في قلب أوروبا. ومع ذلك، لا تزال الحكومات الغربية تغض الطرف باسم المصالح الاقتصادية.
ربما كان بيلونغو أول ضحايا هذه المنظومة، لكنه بالتأكيد لن يكون الأخير إذا استمر هذا الصمت الرسمي. فحين تتحول مكافحة الجريمة المالية إلى أداة في يد الاستبداد، وتتحول الصحافة إلى صدى لتسريبات أجهزة منحازة، تفقد الديمقراطية معناها وتصبح الحرية مجرد شعار.
وإلى أن تعلن الحكومة الفرنسية نتائج التحقيق المنتظر، سيظل السؤال الأكبر معلّقًا: من يحمي السيادة الفرنسية فعلاً، ومن يحاسب الدولة العميقة حين تخضع لإملاءات نظام بن زايد؟
