منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

المعز إبراهيم الهادى يكتب: *كادوقلي ..بداية العهد الجديد ..*

0

المعز إبراهيم الهادى يكتب:

*كادوقلي ..بداية العهد الجديد ..*

شاهدت في التلفزيون ..
ما آل إليه حال سوق ام درمان ..
واستمعت إلى ما قاله الفريق شمس الدين كباشي في كوستي ..
ورأيت ما يلبسه الفاتح عروة وسمعت ما قاله ..

في الأثناء ..
كنت اقرأ رسائل قديمة متبادلة بين وزير الخارجية الأميركي ديفيد رسك 1961 – 1969 وسفير الولايات المتحدة في الخرطوم جيمس مووس جونيور 1958 – 1962 ..

كتب الوزير رسالة إلى السفير بتاريخ 30 يوليو 1961 جاء فيها
“الرئيس عبود يتعاون معنا ومع البريطانيين ضد قادة الحركات الوطنية الذين يحاربون الإستعمار البريطاني في كينيا وأوغندا ويرفض السماح لهم بالسفر عبر السودان إلى مصر وروسيا ودول المعسكر الشرقي ..” ..

وقبلها كتب السفير رسالة إلى الوزير بتاريخ 18 مارس 1961 جاء فيها “يجب أن نعمل على استمرار مؤازرة حكومة عبود لتحالفنا مع المملكة المتحدة وبلجيكا ضد أنصار لوممبا في الكونغو .. يجب أن يستمر السودان في إيقاف وصول اي مساعدات لهم .. كما تذكر فقد منع الرئيس عبود إقلاع طائرات انتونوف الروسية التى توقفت في مطار الخرطوم قبل عدة أشهر وكانت في طريقها لإنقاذ لوممبا .. سنعمل على أن يستمر الوضع على هذا النحو ..” ..

ثم تحدثت الوثائق عن ضرورة ترتيب زيارة للرئيس عبود للولايات المتحدة لتمتين عُرى التعاون بين البلدين ! وبعد أشهر قليلة وفي نفس العام (1961) استقبل الرئيس جون كيندي الرئيس عبود في البيت الأبيض وأقيم له إحتفال كبير بإعتباره زعيماً وطنياً جسوراً ورجل دولة من الطراز الفريد !

ورد في الوثائق رغبة حكومة المملكة المتحدة في ترتيب زيارة مماثلة للرئيس عبود إلى بريطانيا .. وفي عام 1964 استقبلته الملكة اليزابيث الثانية واُقيمت احتفالات فخمة في لندن وأدنبره بمناسبة زيارته التاريخية !

جاء في الوثائق أن السودان بلد واعد لكنه ضعيف وبنيته السياسية هشّة ومتآكلة ولا تستطيع الصمود أمام أي تحديات حقيقية ، وأن نُخبه الحالمة بالديمقراطية تميل إلى التناحر فيما بينها وتفتقد إلى الوعى السياسي الكافي والتخطيط الإستراتيجي بعيد المدى ، وأنها لا تملك المهارة الكافية ولا الخطط اللازمة لبناء الدولة ..

وورد في الوثائق أن قادة السودان يظنون أن بإمكان بلدهم أن يكون جسراً للدول العربية ومعبراً للقارة الأفريقية .. لكن الواقع يكشف غير ذلك إذ يتوجه هؤلاء القادة بكلياتهم نحو البلدان العربية ، بينما يتفاخر بعضهم باُصوله العربية .. لكن بالمقابل فإن زعماء البلدان العربية – وحتى شعوبها – لا يأبهون بهم كثيراً ..

خلصت الوثائق إلى أنه من المرجح أن يستمر السودان فيما هو فيه .. بلداً متناحراً يتراجع مع مرور السنين للوراء دون أن يكون له تأثير في مجريات الأحداث على الساحة العربية .. بينما ستستمر دول المنطقة في نظرتها له كتابع لمصر يأتمر بأمرها ولا يتجاوز الحد معها .. اما مصر فلن تترك السودان يفلت من عِقالها او يتقدم أمامها ..

بالنسبة لعلاقة السودان بالدول الأفريقية تُرجح التقارير أنها سوف تزداد سوءً مع مرور الأيام والسنين وربما تقاطعه هذه الدول في مراحل لاحقة او تنبذه ..

وسيجد السودان نفسه في نهاية المطاف وحيداً ممزقاً منهكاً لا هو ينتمي إلى الأفارقة ولا مع العرب .. وحيئذ ربما يتكالب الجميع للإجهاز عليه بشكل كامل ..

تضيف الوثائق ..
هذا البلد لن يستمر بدون دعم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة .. لذلك فإن وجود السودان ضمن الخطة الإستراتيجية الغربية بعيدة المدى سيفتح القارة الأفريقية من شرقها حتى غربها ووسطها .. كما وستتمكن القوى الغربية من توطيد نفوذها في شبه الجزيرة العربية ودول القرن الأفريقي عبر البحر الأحمر بينما ستكون مصر قريبة وفي المتناول ..

وبالنظر فيما سبق ..
فإن الحرب الدائرة في البلاد منذ ما يقرب من السنة كشفت عن أشياء كثيرة وحقائق مثيرة ..

واحد .. إنتماء السودان للعالم العربي كذبة كبيرة ، فدولاً عربية قد أشعلت الحرب وغذّتها لتستمر حتى يهلك السودان كله بحرثه ونسله ، وهي دول تنظر بدونية لأهل البلاد وتتعامل معهم كرهط من العبيد الكسالى المتسولة الجائعة ، بينما دولاً عربية أخرى تتفرج على مآسي الحرب وويلاتها غير آبهة بما يجري ويقع ..

إثنان .. الدول الأفريقية التي تقع في محيط السودان ومجاله الجيوستراتيجي تقف ضده ..

ثلاثة .. الدول الغربية التي تحكمها الصهيونية والماسونية وفروعهما تتعامل مع السودان كفريسة ..

أربعة .. عزاء السودان الآن هو في الغرباء البعيدين الذين لا تربطنا معهم صلة الجوار ولا تقاطعات المنطقة .. إيران ، تركيا ، الصين ، وروسيا .. وحتى العلاقات مع هذه الدول يجب أن تُدار بذكاء عالٍ وفطنة ودهاء حتى لا تبتلعنا أنظمتها المتمكنة الراسخة التي تتخذ من أساليب المافيا ووسائلها منهجاً للوصول لأهدافها ومراميها ..

خمسة .. بُنية أجهزة المخابرات السودانية ضعيفة ونشاطاتها الخارجية والداخلية مخترقة .. لقد كشف حديث الفاتح عروة الشاذ وسلوكه الضار وغير المسؤول الذي صدر قبل أيام في قناة الجزيرة عن المستوى المتدني لكوادر أجهزة المخابرات السودانية والضحالة التي تمارس بها عملها .. والقصص المشابهة في هذا السياق كثيرة ولا حصر لها ..

ستة .. القيادات السياسية في البلاد بسيطة التفكير ، سهلة الإنقياد ، ساذجة ، تفتقر إلى الحد الأدنى من الفطنة السياسية ودهاء رجال الدولة ، والشجاعة في أخذ القرار المناسب في الوقت الحاسم ..

سبعة .. لن تقوم لبلادنا قائمة إذا إستمر الوضع السابق كما هو او تم تزيينه ببعض الإكسسوارات ليظهر بشكل مختلف ..

لذلك ..
فلا بد من إستثمار من حدث خلال السنة الماضية على أفضل وجه وبأحسن طريقة ممكنة ..

وعليه يجب ..
مواجهة الحقائق المُرّة وتصفية الوضع القديم بشكل كامل ، وإقتلاع مآسي الحِقب الماضية من جذورها حتى نستطيع أن نبدأ البناء من جديد بشكل ثابت وراسخ ومرتب ..

ولذلك ..
يجب أن تكون هذه الحرب هي الفاصلة ما بين عهدين .. العهد القديم البائس عهد الطائفية والنخب السياسية الفاسدة الساذجة المتخلفة المخترقة ، والعهد الجديد عهد رجال الدولة الحقيقيين والساسة الثابتين على المبادئ ، المناورين بفطنة في عالم صعب ووقح ، المدركين لطبيعة تحديات الحكم ، العاملين بصدق وحكمة وعهد من أجل مصلحة البلاد وساكنتها ، عهد الأمل والعمل ، والتطور والنماء ، والتوجه الإستراتيجي المستنير نحو الغايات الكبرى ..

وحتى يتحقق هذا فشروط البناء الجديد كثيرة تحدثت عن بعضها في كتابات سابقة ..

وهنا اُركز على أهمية التفكير الجاد في نقل عاصمة البلاد من الخرطوم إلى مدينة أخرى ، وربما تكون كادوقلي في جنوب كردفان هي الأنسب .. كما ويجب أن تحدث هذه العملية ضمن مخطط إستراتيجي محكم وشامل ومتكامل بعيد المدى يستشرف جنوب السودان واثيوبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو والكاميرون والغابون ونيجيريا لينفتح السودان على عمقه الحقيقي ومجاله الطبيعي والحيوي من وسط أفريقيا حتى المحيط الأطلسي ومن البحر الأحمر حتى القرن الأفريقي ..

أهمية كادوقلي لا تكمن فقط في موقعها الجغرافي المتميز وطبيعتها الخلابة وإمكانية إدارة الدولة منها بفاعلية واقتدار ، بل ولأنّ كادقلي بقعة مضيئة في أرض السودان تمثل شعباً صلباً يضرب بجذوره العميقة في التاريخ ، وهو أسس حضارة امتدت عبر القرون ووصلت إلى السودان النيلي والشمالي وإلى وسط أفريقيا وغربها ، وأستوعبت في فترة لاحقة نور إسلام تَقلي وصاحب صولجانها آدم ام دبالو ..

كما وأن كادوقلي من الممكن أن تكون نقطة بداية الإنطلاق لصهر المجموعات السودانية المتنافرة وانموذج البناء الجديد المنسجم الممتزج المتصاهر الذي تُلغى فيه النفخة العربية الكاذبة والعنصرية اللئيمة ونعرتها النتنة القبيحة ، سودان الشراكة والسواسية كما ورد في حديث الفريق كباشي ، سودان الحكم بالعدل وعدم التمييز بالطائفة او القبيلة ، سودان لا يَخدع فيه الساسة الناس ولا يسوقهم الخونة ولا يُربي أجيالهم الجديدة العملاء ..

سودان تكون الجدارة فيه للأصلح من أبناءه وبناته ..
والأنفع لبناء الوطن والدولة ..
والأقدر لتحقيق تطلعات الأمة وإظهار عزيمتها وعنفوانها في الوصول إلى غاياتها في الحياة الكريمة ذات المقاصد النبيلة ..

المعز إبراهيم الهادى
المحاضر سابقاً
كلية القانون بجامعة الخرطوم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.