منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

السفير عبد الله الأزرق يكتب: *المعقول واللّا معقول في العلاقات الدبلوماسية (5)*

0

في العشرين من أبريل 2006، زار الرئيس الصيني خو جنتاو Hu Jintao (ينطق الصينيون الهاء خاءً) أميركا، وأهدى رئيسها كتاب “فن الحرب” Art of War، وهو مؤلّف صيني اكتسب شهرةً عالية كونه وثيقة تاريخية تتحدث عن علاقات الدول خلال الحرب واستراتيجيات الحروب.
كانت الهدية/ الكتاب منسوجة حروفه القرمزية بأفخر أنواع الحرير الصيني.

ألّف كتاب فن الحرب الفيلسوف وال Military Strategist صون زو Sun Tzu في القرن السادس قبل الميلاد.

الرؤساء – وكذا السفراء – يتهادون عادةً، فهم يعرفون أن الهدايا مَجْلَبة المحبة والتواد، وهذا سينعكس على حسن العلائق بين دولهم، أو كما تقول القاعدة الدبلوماسية Relation between nations is a relation between men “أصل حسن العلاقات بين الدول هو حسن العلاقات بين الناس”.

ولكن إهداء الرئيس الصيني للأمريكي “فن الحرب” وإن بدا هديةً أنيقة، إلّا أن جوهرها رسالة سياسية عميقة تعكس عمق الحكمة الصينة، في مقابل هواجة وتهور الأمريكان. تهور تدفعه روح راعي البقر المندفع للعنف. ذلك لأن فكرة الكتاب هي:
winning without fighting as supreme excellence “الامتياز الأعظم هو أن تكسب حرباً بلا قتال” وتلك كانت استراتيجية صون زو العسكرية، التي تتطلب فطنة وذكاءً كبيراً. وهو مناهض لتمزيق الدول وتحطيمها في الحروب، ويقول:
الأفضل في تطبيقات فن الحرب أن تستولي على بلد العدو كاملاً سليماً، لأن تمزيقه وتحطيمه ليس من الحكمة ”
In the practical art of war, the best thing is to take the enemy’s country whole and intact; to
shatter and destroy it is not good

وحين أهدى خو جنتاو الكتاب لبوش الابن كانت أميركا قد غرقت في حرب العراق ومزقته وحطمته. وهنا كان الدرس!!!

ولأن البعض كان يصف بوش الابن بالغباء، فقد قالوا إن إهداءه ذلك السِفْر القَيّم، يُماثل إلقاء اللؤلؤ للخنازير as a pearl cast before swine. ويرى هؤلاء أن صون زو هو مؤسس (دراسات السلام).
وفي عصرنا الحديث برز مفكرون وسفراء كتبوا في الاسترتيجية والعلاقات الدولية، ووجدت كتاباتهم تطبيقاتها العملية. ولعل أبرزهم جورج كينان سفير أميركا لدى الاتحاد السوفيتي والذي ألّف سياسة الاحتواء Containment Policy 1946) التي نجم عن تطبيقها خراب الاتحاد السوفيتي وتَمَزّقه أيدي سبأ وشذر مزر.

وهناك ثعلب الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر، الذي جعل العرب يتخلون عن قضيتهم المركزية (فلسطين) إبتداء باتفاقية كامب ديفيد.
وبرز في صيف 1989 فرانسيس فوكوياما بمقال في مجلة ناشيونال انترست عنوانه: نهاية التاريخ End of History, ثم طوّره لكتاب، تقول أطروحته الأساسية إن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية؛ تُشكل مرحلة نهاية التطور الأيديلوجي للإنسان، ومن ثم ستعم الديمقراطية الليبرالية كل العالم كصيغة نهائية لحكم البشر، وأنه لا توجد خيارات أخرى. وأثار الكتاب ضجة كبيرة وووجه بانتقادات قوية.

أما صمويل هنتجتون فقد سرق فكرة كتابه: صراع الحضارات Clash of Civilizations من المفكر المغربي مهدي المنجرة، الذي كتب عنها قبله؛ ولكن هنتجتون لم يُشر له مجرد إشارة. وكنت كتبت عن هذا في صحيفة الأستاذ عادل الباز مقالاً بعنوان: “المنجرة يفكر والشكر لصمويل”.

وعرف John Mearsheimer و Stephen Martin Walt بالعمق في كتاباتهم، ولكن اللوبي الصهيوني شَنّ عليهما حملة تغييب، بعد اشتراكهما في كتابة The Israel Lobby، الذي فضح اللوبي في أميركا، واتهما بمعاداة السامية.
وعودة لموضوع هدايا الرؤساء. فمن غرائب الهدايا بين الرؤساء أن الرئيس البلغاري (عاصرته حين كنت سفيراً ببلغاريا) بويكو بوريسوف أهدى كلباً لبوتن.

ومن أعجب عجائبها أن ملك داهومي (غُيّر اسمها لجمهمورية بنين عام 1975) أهدى الملكة ڤيكتوريا عبدة Slave، والمؤسف أن الملكة قبلت الهدية وحملتها لبريطانيا، رغم تشدق بلادها بمحاربة الرق!!!
ومن غرائبها أن سوهارتو أهدى الرئيس ريغان حيوان الكومودو، الذي تعتبره أندونيسيا “حيواناً وطنياً”!!!
وتميز بعض الرؤساء العرب بتقديم الهدايا القيّمة خاصة لبعضهم فقد أهدى القذافي طائرة لحسني مبارك، واهدى صدام لمبارك مجموعة سيارات كريسيدا.
أمّا السلطان قابوس فقد أهدى لمبارك ساعة من الذهب ماركة رولكس الشهيرة وخنجراً من الذهب مرصعاً بالاحجار الكريمة.
ويُغرق بعض الخليجيين الرؤساء الغربيين بالذهب.
ولكن المسؤولين الغربيين يهدون هدايا رمزية لأن القوانين تحكمهم. وتلزمهم بتسليم الهدايا عالية القيمة المالية التي يتلقونها لدولتهم. وقد أهدت الملكة اليزابيت صورتها موضوعة في إطار فضي للرئيس بايدن.
ولدى انتهاء مهمتي كسفير للسودان لدى بلاط سانت جيمس في 2014، أهدتني الملكة اليزابيث صورتها مع زوجها الأمير فيليب، وقد وقّع كل منهما عليها توقيعاً حياً بأقلامهما.

في زيارة نائب الرئيس بكري حسن صالح أهدى الكوايتة الكرماء ذهباً لكل الوفد. أمر الفريق بكري بتسليم الهدايا لخزانة القصر لدى رجوع الوفد.
امتثل أعضاء الوفد بالتوجيه، عدا وزير واحد قال لموظفي المراسم:
“بلاش كلام كيزان معاكم. عليّ الطلاق أنا ما أسلمكم …….. دي هديتي وأنا شايلة” !!!
وكان أحد أعضاء مجلس السيادة السوداني في عهد حكم الصادق المهدي (عليه من الله الرحمة) يحب الهدايا، فكان يتسلل ليلاً من جناحه في كل زيارة، لغرفة موظف المراسم ليسأله همساً: “أها الجماعة ديل أدونا شنو؟؟”

واستقبل ساركوزي هدية أثارت استياءه من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في عام 2011، حيث أهداه أردوغان رسالة كتبها السلطان العثماني سليمان رداً على استغاثة الملك فرنسيس الأول عندما وقع أسيرا في يد الإسبان، وقام بالفعل بتحريره، وذلك بعد أن رفض ساركوزي أن يقوم بزيارة رسمية لتركيا كرئيس لفرنسا، واختار أن يزورها كرئيس لمجموعة الـ20 وأن تكون مدة الزيارة قصيرة جدا لا تتجاوز 6 ساعات، مما أثار استياء تركيا فضلا عن استيائها من موقفه الرافض لانضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.

وكان الرئيس السابق عمر البشير يهدي أطناناً من المانجو والقريب فروت للرؤساء.
حين كنت مديراً للإدارة العربية بالخارجية كنت حريصاً على علاقات صداقة بالسفراء العرب، وكنت أهاديهم.
ذات مرة دعوتهم لوليمة كبيرة without neck tie في مزرعة صديقي دفع الله الكباشي. تولى الكباشي أمرها فذبح خمس حواشي (الحاشي صغير الإبل) وعشرين خروفاً حشوا بعضها بالأرز والزبيب وذلك في مزرعته الجميلة. وأهديت مديراً للإدارة العربية في إحدى الدول غزالاً وغزالة.
أصبحت العلاقة بيننا مفتوحة لدرجة كادت أن تختفي فيها المذكرات، وأصبحنا نتفاهم في القضايا التي تهم البلدين بالهاتف. من نتائج هذه الصداقة أن ذلك المدير كان يتصل بي من عاصمته لتنسيق مواقف دولتينا في محافل عربية. ومن طرائفها أن المعارضين نسقوا مع الحزب الشيوعي في بلد أحد هؤلاء السفراء العرب لإقامة منشط عن حقوق الإنسان بالسودان. حدّثته عن الأمر، فطلب أن أكتب مذكرة احتجاج شديدة اللهجة. ولما أرسلتها له اتصل بي ليقول مازحاً “أخي هذه ليست مذكرة احتجاج، هذه نار صعب عليّ مسكها” وأرسلها لعاصمته التي أوقفت الفعالية.

📍السفير عبد الله الأزرق
—————————————
2 أكتوبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.